مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

أنا ومن بعدي الطوفان – الفردية والتمحور حول الذات وتأثيره على المجتمع

تتعالى الأصوات الداعية بضرورة المقاطعة للمنتجات الاستهلاكية لشركات الصهاينة والدول الداعمة لها، فنجد صاحبنا يرفض رفضاً شديداً المقاطعة وعلى غير استعداد أبداً للتضحية بجودة منتجاتهم واللجوء للمنتجات المحلية الأقل جودة وعلى غير استعداد كذلك للاستغناء التام عنها حتى لو كانت في عداد المنتجات غير الضرورية.

ينفجر طلاب أحد الأقسام في كلية ما معلنين الإضراب عن حضور المحاضرة من هول الضغط النفسي والتلاعب بالأعصاب والظلم في الدرجات الذي يرتكبه أحد الأساتذة الذي يُدرّس لهم إحدى المواد الدراسية في عامهم الأخير بالكلية، فنجد صاحبتنا تعلن إعراضها عن الإضراب وتنطلق معتذرة لأستاذ المادة مهدية له بعض الورود، مبررة موقفها بأنها تحمي جهودها طيلة السنوات الماضية وهي على غير استعداد للتضحية بأي درجة في مقابل الإضراب الجماعي.

يضيق العالم ذرعاً على ذوي الدخل المحدود نتيجة المعيشة الصعبة والظروف الاقتصادية الطاحنة وفي المقابل نجد المسؤولين أصحاب الأموال يقيمون الحفلات والسهرات بآلاف الجنيهات دون اكتراث حقيقي برعيتهم.

تجتاح البلاد موجة حارة شديدة تجعل المكوث دون مروحة أو مكيف داخل المنزل أشبه بالجلوس قرب فوهة بركان ورغم ذلك نجد الزوج منفرداً بالمروحة الوحيدة في المنزل مسلطة عليه وحده تاركاً زوجته وأولاده في معاناتهم.

تلك هي المئات والآلاف –إن لم تكن الملايين– من النماذج التي تفضل المكسب الشخصي على المصلحة العامة، وأمثلة بينة لنفوس لا تطيق تحمل أي درجة من درجات الألم أو الصبر في مقابل نتيجة أفضل للجميع، وأوصاف لأفكار مادية منطبعة داخلهم تعجِزهم عن تذوق القيمة طالما لا توجد لها فائدة مادية في الآن واللحظة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وتتوالى علينا الحكم المستقرئة ممن احتكوا بتلك النماذج فنجد أقوال كـ “محدش بينفع حد، كله بتاع مصلحته” ، “أنا ومن بعدي الطوفان” ، “انفد بجلدك” ، “عم عشم مات”.

ويعاني من ذلك الكل، وينفرط عقد المجتمع وأوصاله.

هذا ما أنتجته لنا الحضارة المادية التي تجتاح العالم الآن.

الحضارة المادية

المقصود بالحضارة المادية هي حضارة بدأت بفكر مادي أنتجه بعض الفلاسفة والمفكرين الغربيين اللذين حصروا طبيعة الإنسان في جانبه المادي الجسدي واختزلوا القيمة في النفع الملحوظ واعترفوا فقط بالعقل القادر على البحث في العلوم التجريبية والبارع في تذليل الكون لمنافعه الشخصية، مهملين العقل المجرد الباحث في المفاهيم الثابتة ومعرضين عن الاعتراف بالقيمة والمعنى والماورائيات.

ثم أسقطوا هذا الفكر على جميع نواحي الحياة فنتجت الرأسمالية في الاقتصاد والليبرالية كمنهج حياة والديموقراطية في السياسة والبرجماتية كفكر عام لمنهج الإنسان الذي يحدد على أساسه أنظمة التعليم والتعاملات وخطط المستقبل.

وما نجده اليوم من النماذج الفردية التي تحدثنا عنها في بداية المقال هي مصاديق لهذا الفكر الغربي الذي تفشى في منطقتنا العربية متأثرين بما أصاب الغرب في الآونة الأخيرة، وهي أفكار دخيلة على ثقافتنا التي لطالما تمسكت بالقيمة والأخلاق الطيبة والحق. لقد أصابها الذعر المادي مما أدى لمؤشرات سيئة تقود إلى تفكك المجتمع.

نعم، تفكك المجتمع؛ لأن أوصال المجتمع لا تتم إلا بتنحي الفردية والذاتية جانباً والعمل على إعلاء المصلحة العامة، إعلاءً ليس فيه ظلماً للذات وإهمالها على حساب غيرها ولكن فيها من الإيثار والتضحية والتحمل ما يعود بالترابط والتماسك الذي يهنأ في ظلاله الجميع، وما يعود عليها من رقي في سعيها نحو القيمة.

من منا الآن يضع نصب عينيه مصالح الآخرين؟ ومن منا الآن يخرج من نطاق مشكلات حياته وتفصيلاتها إلى مشاكل المجتمع وتحديات الأمة؟ من منا مستعد أن يجعل مسيرة حياته بمثابة درجة من درجات السلم الذي يرقى من خلاله المجتمع؟

لما لا تتوحد الجهود ؟

فعلى سبيل المثال نجد الآلاف من الصيدليات والمئات من المعامل الطبية والعشرات من الحضانات التي ترعى الأطفال في سن ما قبل المدرسة، رغم كل هذا الكم وفي المقابل لا نجد الكفاءة المطلوبة في أي منها إلا نادراً. ماذا لو توحدت جهود البعض منهم لتقديم خدمة أفضل بدلاً من السعي وراء التفرد بالاسم والملكية؟

ماذا لو اهتم كل مدير بمرؤوسيه من الناحية النفسية وتقدير الجهود المبذولة ولم يهتم فقط بتحقيق أهداف العمل ونتائجها.

ماذا لو اهتم الناس بمشكلات مجتمعهم ووضعوا خطط حياتهم لإصلاح تلك المشكلات حتى لو أثر ذلك على دخلهم المالي واستهلاكهم.

وكيف بمجتمعات تتعاون لحماية الأرض التي تؤوينا جميعاً دون مصالح فردية تجور على الحقوق وتظلم الأبرياء وتُيتم الأطفال وتشعل الحروب وتدمر الكوكب.

الفردية تسبب التعاسة

الفردية والأحادية والتمحور حول الذات يسببوا التعاسة للإنسان، ولن ندلل بالكم الهائل من المعاناة التي يعيشها الكثيرون اليوم ولكن سندلل بخطأ المنهج نفسه المتبع، فالمنهج الذي ينظر للنفع الملحوظ المحسوس فقط هو منهج ضال لا يرى الصورة كاملة وبالتالي فكل ما تبعه من تنظيمات ومبادئ وفلسفات هي بدورها ضالة ولا تطابق الواقع الصحيح، وما خالف الواقع الصحيح لن يقود للسعادة الحقيقية الدائمة.

دعوة لأن نتحرر من ضيق الأنانية والأفكار التي تحث على الفردية ، وبدلاً منها ننتهج المنهج الصحيح الذي يعترف بقدرة الإنسان على تجاوز نطاق جسده.

المنهج الذي يتمسك بالأخلاق الحسنة والسعي للقيمة ويهتم بالمصلحة العامة ويكترث بالغير ويوحد الجهود.

إنها دعوة لتأصيل الـ ” نحن ” لا الـ ” الأنا “، لأننا لا نعيش بمفردنا ولأننا نحتاج لبعضنا البعض، ولأنها الطريقة المثلى لتحقيق أسمى قيمة في الوجود وهي العدالة.

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة