دواء فاوست .. صناعة الدواء بين الاحتكار والعدل! أحق الحياة مكفول للجميع ؟
جلست أمام شاشة التلفاز وقد تعلقت عيناي بالشاشة، كملايين المشاهدين حول العالم في تلك اللحظات، وقد انضم إليهم ملايين المصريين على غير العادة، وقد انغمست قلوبهم في الأمل والتمني برؤية النجم المصري (محمد صلاح) المحترف بالدوري الإنجليزي وهو يحصل على جائزة رابطة الدوري الإنجليزي لأفضل لاعب موسم 2017-2018،
ومع بداية الحفل الذي شابته بعض الفقرات الغنائية والراقصة، وتوزيع بضعة جوائز على غرار أفضل لاعب ناشئ وأفضل لاعبة، ومع لحظات الترقب لرؤية الإعلان عن الجائزة المنشودة تأتي فقرة ضمن فقرات الحفل، وهي تكريم لشاب يبلغ من العمر 18 عامًا، وقد اكتست ملامحه التي ما زالت تحمل مسحة طفولية واضحة بالألم، وقد أصيب بمرض جلدي نادر يجعل جلده يتآكل وكأنه قد تعرض لحروق شديدة،
وأثناء المقابلة تسأله المذيعة الحسناء بابتسامتها الساحرة التي تشعر وكأنها ملصق دعائي لا يتغير حول وجود علاج لحالته، ليخبرها الشاب بمنتهى البراءة بأن هناك بالفعل علاجًا لهذا المرض ولكنه مكلف جدًا،
حيث تصل تكاليف علاج هذا المرض لـ 200 ألف جنيه إسترليني، هكذا ببساطة يعاني شاب في مقتبل عمره الأمرين جراء المرض دون إمكانية العلاج رغم وجود الدواء لغلو ثمنه، وكتكريمًا له على صبره على تلك المعاناة فلندعوه إلى حفل يحضره عدة لاعبين راتب بعضهم قد يصل إلى 100 ألف جنيه استرليني أسبوعيًا، وقد أحياه عدة مغنيين في حفل لا شك أنه قد تكلف مبلغًا ماليًا لا بأس به، بدلًا من محاولة تقديم العلاج له!
فالمهم في النهاية هي أن تكون الصورة جميلة، حول معاناة الشاب وتكريم الرابطة له.
حق الحياة
قد يظن البعض أني أتحدث عن تكاليف الحفل أملًا في أن تقدم رابطة الأندية المحترفة بالدوري الإنجليزي العلاج للشاب المسكين، أو ربما يذهب البعض الآخر إلى أنني أتحدث عن اللاعبين ورواتبهم حقدًا أو انتظارًا لأن يقوم هؤلاء وأنديتهم بتخفيض رواتبهم أو التبرع بها لمريضنا، ولكن ماذا لو حدث هذا؟ ماذا بعد؟ هل انتصرت الإنسانية؟ وتحطم المرض على صخرتها إلى الأبد؟ إن حدث هذا فمازلنا نتحدث عن حالة فردية استطاع صاحبها أن يتخطى آلامه وأوجاعه، وأن ينتصر على مرضه، ولكن ماذا عن الملايين غيره؟
إذا كنت تظن هذا المقال حول العدالة الاجتماعية التي لم ينفك الكثيرون بالكتابة عنها لذا علي أن أنصحك أن تعيد النظر في استكمال القراءة، الأمر أبسط من ذلك بكثير، فالأمر يدور حول واحد من أبسط وأبده الحقوق الإنسانية، وهو حق الحياة، حق الحياة الذي لا بد أن تكفله وترعاه كل نفس إنسانية واعية لغيرها، وأن تكون تلك الحياة أثمن من كل ما دونها، ويبذل لأجل الحفاظ عليها ورعايتها الإنسان كل غال ونفيس،
وبغض النظر عن السعي الحثيث للإنسان بأخذ تلك الحياة، بما تقترفه يداه من قتل وحروب، تلوث وإفساد في الأرض، تهور وطيش وحوادث…، فلم يتوقف الأمر عنده إلى هذا الحد بل استمر ليساعد أيضًا في مأساة جديدة، بأن يتوقف ولو عرضًا عن تقديم العلاج و الدواء.
احتكار صناعة الدواء
12 ألف شركة لتصنيع الدواء حول العالم، بينما تحتكر 25 شركة فقط نصف صناعة الدواء العالمية! وذلك بدعوى حماية الحقوق الملكية الفكرية الطبية! شاهد أخاك الإنسان يصارع الألم والموت، وقد علت وجهك ابتسامة سعيدة فأفكارك الطبية في أمان بعيدة عن تلك الأيادي الخشنة المتقرحة من العمل اليومي الشاق التي تسعى للعلاج من المرض، نم هانئًا فلن يستطيع هؤلاء الأوغاد أن يهنأوا بالشفاء وأن ينالوا الحياة،
وبالنظر إلى الأرباح البسيطة التي تحققها تلك الشركات مما جعلها ترفل في فقر مدقع يظهر لنا الوجه الحقيقي للحضارة المادية الغربية التي تقود الإنسانية لهلاكها المحتوم، شركة (فايزر) كمثال استطاعت الوصول عام 2014 إلى 3.74 مليار دولار أمريكي كصافي أرباح، بينما استطاعت شركة (ميرك) تحقيق صافي أرباح 1.69 مليار دولار أمريكي.
حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية لعام 2015 توفى 56.4 مليون إنسان، 70% منهم مات نتيجة لأمراض غير معدية وهي أمراض القلب، مرض السرطان، مرض السكر، والأمراض الصدرية المزمنة، أي أننا نتحدث هنا عن 39.48 مليون إنسان، رقم مهول لا شك، ولكن ربما لأن هذه الأمراض ليس لها علاج جذري،
ولكن ماذا عن الأمراض الأخرى، كالتهاب الكبد الوبائي أو ما يطلق عليه (فيروس سي) والذي يوجد له علاج بالفعل، والذي يصيب 150 مليون إنسان سنويًا ويتسبب مباشرة في وفاة 500 ألف إنسان، (هارفوني) إحدى علاجات فيروس سي والذي يصل ثمن دورة العلاج به (12 أسبوع) إلى 87000 دولار أمريكي، أو (سالفودي) والذي يكلف 73000 دولار أمريكي، جريمة قتل عمد تحدث بحق كل مريض إنساني يعاني من المرض والفقر، ولكن أين المفر؟
كم من المال يساوي حياة !
بدأنا الكلام عن أن الحياة الإنسانية لا تقدر بثمن، ولكن ذهب البعض للظن أن هذا يعني منطقية أي مبلغ يُطلب للحفاظ على تلك الحياة، فسيظل هذا المبلغ زهيدًا أمام ما يقدمه لك، وهو الحياة نفسها، دون أن تلتفت تلك العقلية إلى حقيقة تلك المقولة وما وراءها، فالمال ما هو إلا مجموعة من الأوراق تفقد كل قيمتها أمام القيم الحقة، وهذا -للأسف- هو ما تقدمه لك النظرة المادية،
محاولة تقييم مادي لكل ما هو موجود، فتوضع الحياة جنبًا إلى جنب على رف واحد بجانب حذاء ذي ماركة عالمية، أو ساعة سويسرية أنيقة، أو سيارة فارهة، وبجانبهم بعض القيم كالصحة، الحرية، والشرف، وربما لدى الغر الجاهل قد تأسر قلبه تلك الساعة البراقة فيضحي بحريته أو بشرفه، وكأن الإنسانية جمعاء قد سيقت لتقدم روحها للشيطان كـ(فاوست)، وكأن بالإنسان لم يجد الحروب، وسفك الدماء، سبلًا كافية لإزهاق الأرواح فسعى بتجبره وظلمه لإرواء ظمئه بمزيد من الأرواح المرضى.
إن البحث عن الحل ضمن منظومة فاسدة بآليات تلك المنظومة لا يمكن بأي حال أن ينتج حلولًا حقيقية ومجدية، لذا كانت قانونية حق ملكية الفكرية الطبية التي تبحث عن دافع للبحث العلمي والطبي، في ظل إطار من المادية التي تجعل القيمة الحقيقية للإنسان في حافظة نقوده، رصيده البنكي، سيارته، ومنزله الفخم، فلا يمكن أن تدور غاية الإنسان حول الإنسانية بمفهومها الحقيقي، وإعلاء القيم والانتصار للحق،
إن الانتصار للمجتمع الإنساني لم يعد انتصارًا لأيدلوجية وفكر بقدر ما هو انتصار للحياة نفسها، مجتمع لا تثمن به حياة الفرد وصحته، يعيش كريمًا بين أقرانه ونظرائه، يعمل على أن يسمو ويتكامل ماديًا وجسمانيًا وروحيًا ومعنويًا وعقليًا، يصبح فيها الحق الأهم هو حق العدل والعدالة، ويكون التكريم للإنسان تكريمًا حقيقيًا.