نبيهة وفضيلة
فضيلة
– عاجبك عمايل الواد حسن دي يا فضيلة يا ختي، كل يوم يرجع نص الليل بيتهته ويطوح ويشتغل يوم وعشرة لأ، وقارف أخته وكل شويه ياخد حاجتها اللي بتطلع عنيها في الشغل علشان تعرف تشتريها، ولا الأرشانه اللي ما صدقت الراجل يموت فتروح تاكل حق عيالي وتديه لولادها ولا عارفه آخد منها حق ولا باطل، أنا قرفت من العيشة دي، أنا عملت إيه في دنيتي يا رب عشان يحصلي ده كله!
تصمت قليلا وتفكر في قول لمواساة أختها فتجيب …
– والله مش عارفه أقولك ايه يا نبيهة. ربنا يهديه ويعقله ويبعد عنه صحاب السوء، والست دي خليكي وراها؛ ده حق عيالك تابعي مع المحامى ومتيأسيش وإن شاء الله حقكوا هيرجعلكوا.
قبل أربعين عام من هذه المكالمة التليفونية …
كانت تعيش هاتان الأختان معا في منزل والدهما الكبير في حي شعبي، وقد كان والدهما من كبار تجار هذا الحي ووالدتهما “ست بيت” من الطراز العتيق، وكان الأب بالرغم من جهله إلا أنه سعى جاهدا لجعل بناته متعلمين ومثقفين؛ حيث كان يشعر بمرارة الجهل الذي لم يمحُ علقمه الجاه والمال والسمعة الطيبة اللاتي كانت يتمتع بهم، فأدخل ابنتيه “فضيلة” و “نبيهة” أفضل مدارس الحي ودأب في توعيتهم بأهمية العلم. ..
كانت فضيلة تشعر بلذة في تحصيل العلم والمعرفة وكان لديها طموح كبير في الحياة، وعندما كانت تراها نبيهة عاكفة على الكتب الدراسية وحتى غير الدراسية في مجالات مختلفة أو روايات تقول لها في تعجب:
“يا بنتي الكتب هتاكلك دماغك، وجامعة إيه اللي انتي عاوزه تدخليها دي ما كفايه لحد كده، ما احنا خلاص اتعلمنا ومبقناش جهلة زي ما أبوكي كان عاوز، نفسي أفهم دماغك دي فيها إيه؟! فكي كده؛ أحسن بالطريقة دي محدش هيفكر فيكي! الراجل بيحب الست المدردحه اللي تعرف إزاي تسعده وتدلعه!”
فتنظر لها نبيهة بابتسامة ممتزجة بأمل وحسرة في الوقت ذاته، ثم تجيب
“عارفه مدرس الفيزياء دايما بيقولي إيه: إن اللي بنتعلمه في المدرسة وحتى اللي هنتعلمه في الجامعة مجرد طريقة تخلينا نعرف إزاي نفكر ونحلل وننتقد وإنها مجرد أماكن نعرف منها آخر العلوم اللي وصل ليها الناس اللي قبلينا، غير إننا هنفضل جهله زي ما بنفضل نجوع بعد كل أكله، كان نفسي أوصفلك السعادة اللي بحس بيها بس مع الأسف صعب، بس خليني أحاول… عارفه لما بننزل يوم الأجازه بتاعة” الحج” ونلف في السوق عشان نجيب خضرة المحشي ونطلع نحضر فيه 3 ساعات وكل شويه نروح نشوفه استوى ولا لسه، بنحس بسعادة قد إيه لما بناكله؟!
– انتي عارفه أنا بعشق المحشي إزاي مش محتاجه أقولك؟
– بتفضلي مبسوطه بعد ما بتكليه قد إيه؟!
– مش فاهمه قصدك إيه؟
– يعني بعد ما بناكل ونقوم ونظبط السفره والكلام ده كله شعورك بالسعادة من أكلة المحشي بيفضل معاكي قد إيه؟
– مش بيقعد! هو بعد ما بناكل خلاص، ببدأ أفكر بأه هنتعشى إيه!
-ههههههههه،أهو أنا بقى بحس برده بسعادة بعد ما بخلص قصة
مثلا عن التاريخ أو بقرأ رواية أو كتاب يعرفني أكتر إحنا هنا ليه وهنروح فين؟ وجينا منين وكمان عن إزاى أربي بشكل أفضل وإزاي كمان اختياري للزوج يكون أفضل، بس دي سعادة من نوع تاني “سعادة روحية”، فاكره لما في مرة شوفتي ولد قاعد مع مامته بيشحت وصعب عليكى فادتيله تفاحه من اللي كان معاكي، حسيتي بإيه ساعتها؟
-حسيت إني مبسوطه أوي وفضلت فترة كبيرة كل ما بفتكر نظرة الولد بحس براحة نفسية غريبة!
-اللي انتي حسيتي بيه ده اسمه سعادة روحية وأثرها بيكون أكبر
بكتير من السعادة اللي بناخدها من الأكل والشرب والنوم!
-اقعدي انتي قوليلي كلام عجيب كده مبفهمش منه حاجه، أما أروح أشوف أبوكي عاوز إيه كان بينده!
وبعد مرور عدة سنوات تزوجت الأختان وأنجبت كل منهما ابنًا وابنة، وكان زوج نبيهة من الرجال الذين ضحوا بالكثير من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من المال، فقد قضى 20 عاما فى إحدى الدول الخليجية سعيا لتحقيق هذا الهدف، والذي رأى أنه سيمكنه من العيش في راحة تامة وكل ما ينقصه هو زوجة تعرف كيف تسعده وتعوضه عن ما عانى منه طوال هذه السنوات، وهذا بالضبط ما سعت نبيهة لتحقيقه طوال فترة زواجهما، أما فضيلة فقد كان زوجها شابًّا متوسط الحال ذا طموح وشغف كبير في الحياة، وقد كان أول لقاء لهما في إحدى الندوات التي اعتادت فضيلة حضورها، فكان ما جمع بينهما هو توافق الفكر والأهداف الروحية.
مرت السنين ودخل الأولاد مدارسهم وأصبحت الحياة أكثر تعقيدا وبالرغم من انشغال كل أخت في حياتها الخاصة إلا أنهما على اتصال دائم. وعندما كانت تجتمع الأختان، كثيرا ما كانت تشكو نبيهة لأختها من الطريقة التي يعاملها بها زوجها؛ فبقدر ما كانت تحاول دائما إرضاءه وتوفير الراحة له، إلا أنه دائم التأفف من صراخ الأطفال ونادرًا ما يلعب معهم أو يهتم بمشكلاتهم، ولم يعد يجلس معها ويستمع لها كما في السابق، وكثيرا ما يقول أنه مل حياته معها، بخلاف أنه كثيرا ما يتأخر في العمل وأنها بدأت تشك في كونه على علاقة بغيرها!
تصمت فضيلة قليلا لتفكر فيما يمكن أن يُقال وتتذكر حوارها مع أختها وهم صغار عن الحياة والعلم ومعايير اختيار الزوج وما يجب أن تهتم به الأنثى حقا لتصبح حياتها سعيدة وتحسن الاختيار وما يجب أن تهتم به لتصبح مرغوبة من الجنس الآخر وكيف أنها كثيرا ما حاولت توعيتها وإرشادها ولكنها لم تنصت! ولكنها حرصا على مشاعر أختها وما تعانيه لم تخبرها بأن السبب الحقيقى فيما تعاني منه الآن من معاملة سيئة من قبل ولدها ومن زوجها واهتمامها بالمظهرعلى حساب الجوهر، فبالرغم من جمالها ومعرفتها لكيفية إسعاد زوجها “مدردحه” إلا أنها لم تستوعب أن الشهوة ملولة بطبيعتها تأخذ ولا تشبع وتبدأ في البحث عن جديد، أما ما تحتاجه الآن من عطاء وتضحية ومعاملة حسنة وتحمل مسؤولية وإخلاص واستقرار من الزوج فهذا كله صنيع الجوهر النقي وفاقد الشيء “الأخلاق والعلم” لا يعطيه “تحمل مسؤولية وعطاء وتضحية” ومن لم يتربّ فى بيئة روحية تشبح احتياجاته النفسية والأخلاقية قبل المادية لن يتمكن بطبيعة الحال من إعطاء ما لم يتم غرسه فيه من احترام لحقوق الآخر ومعرفة كيفية بر الوالدين وبالطبع لن يتمكن من أن يعصم نفسه من الوقوع في ذلات الشهوات والانقياد الأعمى وراء أصدقاء السوء؛ فخواء عقله وضعف إرادته يقفان حائلا بينه وبين صلاحه.
ووسط هذه التخيلات الممزوجة بمشاعر الحزن والحسرة دائما ما يقاطعها صوت أختها نبيهة متسائلة: انتي معايا ولا رحتي فين يا فضيلة؟ أعمل إيه ده أنا طول اليوم بظبط نفسي وأهتم بشكلي وأحضر له الأكل اللي بيحبه والواد مبيطلبش حاجة إلا وبنجيبهاله! كل اللي بعمله علشانهم ده ومش مكفيهم!
فتجيبها في عطف: مفيش يا حبيبتي أنا معاكي أهو، ربنا يهديهم لك ويصلح لك حالهم، ربنا كبير…