امسك حرامى!
مثلُك: أعلم أن أفعالنا مرآة لأفكارنا (التى هى نتاج عملية تفكيرنا). و هذا ليس مجرد تشبيه بليغ نُبين من خلاله مدى دلالة الفعل على الأفكار و عملية التفكير، إنما هو قاعدة تخص كيان الإنسان.
ولزيادة إيضاح: تأمل فيما حولك ، تعالَ نتأمل الحضارة المصرية القديمة –مثلا- فماذا نرى؟ نرى إيمان المصريين القدماء بفكرة البعث وأن الروح تهتدى إلى الجسد بعد الموت وبناء على هذا رأوا أنه من الضرورى “حفظ الجسد سليما” بعد الوفاة ، وظهر أثر هذه الفكرة واضحا جليا فى براعتهم فى علم التحنيط وظهر فى الرموز والكتابات الدينية المنقوشة على المومياوات والتوابيت والمقابر التى يعتقدون أنها تهدى الروح إلى الجسد.
لسنا بصدد تفنيد فكر المصريين القدماء ؛صوابه وخطئه ، إنما أريد أن ننتقل من هذا المثال التوضيحي متفهمين القاعدة الخاصة بكيان الإنسان ألا وهى : أفعالنا مرآة أفكارنا (التى هى نتاج عملية تفكيرنا).
ثم ماذا بعد أن تفهمنا القاعدة ! إلى أين سننتقل بها ؟!
يمكننا الانتقال بها إلى أفعال الإنسان على المستوى الفردى أو الشارع أو المدينة أو الدولة أو حضارة كل حسب اهتمامه وعمق إدراكه والمعلومات المتاحة لديه وقدرته على استنباط ما وراء الفعل من فكرة و طريقة تفكير. ربما نجد أفعالا غير مطابقة لما يدعيه البعض من أفكار ،نجد مثلا مجرمين يتحدثون عن العدالة ! هؤلاء إما أنهم كاذبون منافقون أو لا يعلمون شيئا عن العدالة التى يعلمها الجميع وهى:إعطاء كل ذى حق حقه.
و الآن ننتقل بالقاعدة إلى إحدى وسائل المواصلات العامة (الميكروباص) حيث كنت فى طريقى إلى الجامعة فى الثامنة صباحا وسمعت ومن معى صياحا ” حرامى.. حرامى ” كان الصياح ممزوجا ببعض الشتم والسب ! وما هو إلا زمن التفاتى ناحية الصوت؛ فإذا بصاحب الصيحة يركل الحرامى وهبَّ إلى مساعدته ثلاثة من الشارع منهم من يساعد بقدمه فى الركل ومنهم من يضرب بعصا خشبية (إيد مقشة).
(الميكروباص) مستمر فى طريقة، وقبل أن أنقل لك ردود الأفعاد داخل صندوق النقل العام ،ربما تُدهش إذا أخبرتك أنى رأيت على الجهة الأخرى من الطريق شخصا يجرى (بالمقشة) ناحية الحرامى ساعيا لضربه تأديبا له أيضا! يعبر فى سبيل ذلك مسافة لا تقل عن خمسين مترا تقريبا رغم وجود من يقوم بمهمة التأديب على أكمل(أحط!) وجه.
أما شعب (الميكروباص) فتراوحت ردود أفعاله بين الصمت أو ترديد بعض الجمل مثل (يخرب بيوتكو، سرقة ع الصبح ، يستاهل الحرامى ده).
هذا المشهد مرآة لأى فكر أو عملية تفكير يا تُرى؟
قد نستعين بالبلاغة اللغوية ونعدد أوصافا للمجتمع تُهيج فينا الاشمئزاز من قبح التصرفات الخاطئة. لكن علينا أولا تشخيص المرض بوضوح ثم تهيئة المريض لاستقبال العلاج والالتزام به مستغلين فى ذلك الأدب اللغوى وتأثيره فى النفس . إن هذا المشهد يدل على خطرين هما :
1-الجهل بحقوق الآخر(حتى وإن كان متهما ؛فالمتهم إنسان له كرامة!) والجهل بالطريقة العادلة المشروعة التى يسترجع بها الإنسان حقه.
2-تصديق الكلام بمجرد سماعه دون تحرٍّ عن صحته، و بناء على هذا التصديق نُصدر ردود أفعال طائشة حادة العاطفة ظالمة تورث الندم.
دعنا نبدأ بصاحب الصيحة “حرامى … حرامى “، إن كان مجنيا عليه فعلا فمن حقه الصياح حتى يساعده غيره للتمكن من تقييد المتهم لحين الذهاب به لجهة تتحرى الموقف وتصدر حكما على المتهم فإما أن يكون لصا “حرامى” أو أنه اتهام باطل. أما ضرب المتهم وركله وإهانته فهذا يحدث فى مجتمع فوضوى أو شبه فوضوى . وهذا المجتمع يعانى أفراده تناقضا فى أفعالهم فكيف يكره صاحب صيحة “حرامى…حرامى” أن يسرقه لص ثم هو بانفعاله الزائد لنفسه يظلم المتهم بالاعتداء عليه!
أما الملبون لنداء “حرامى … حرامى” بالحمية والعنفوان، طبيعى بحكم الانتماء لنفس المجتمع أن نُلبى نداء المستغيث فأمن الفرد هو أمن المجتمع والخطر الذى يصيب الفرد هو خطر على المجتمع وإن لم نفعل فهذا خلل .لكن ما شكل التلبية ؟! إن التلبية هدفها إيقاف المعتدى والتحفظ عليه وحفظ كرامته لحين الوصول به لجهة تحقيق!
هل رأوا المتهم يسرق ؟ لا، إنهم تصرفوا بناء على التصديق بمجرد السمع!
هل يعرفون الشخص صاحب صيحة ” حرامى حرامى” ويثقون بصدقه ؟ لا ، هم لا يعرفون المدعى، هم انشغلوا بالهجوم والاعتداء.
هل علموا ماذا سرق المتهم أصلا ؟ .. هل علموا لماذا سرق؟
ربما كان المدعى مخطئا فى اتهامه! ربما كان المتهم يسرق من شدة احتياجه! الاحتياج ليس مبررًا للسرقة، لكن الاحتياج الذى يدفع بالإنسان إلى السرقة أدعى بالتساؤل عن مسؤولية المجتمع تجاه أفراده المحتاجين!
لم يتساءل أبطال المشهد عن شيء ! إنهم يصدقون بمجرد السماع! إنهم يندفعون معتدين بعمى غضبهم!
الإنسان لما يجهل كيف يسترجع حقوقه ولما يعيش فى كنف نظام اجتماعى لا يعرف أفرادُه حدودَ كل واحد منهم ومسؤولياتَه فلا مجال لشيء سوى الفوضى.
الإنسان لما يلغى عقله فى موقف ما ويصدق الخبر بمجرد سماعه من شخص واحد، ويقوده غضبه دفاعا عن نفسه أو عن أحد أفراد مجتمعه ؛فلا مجال للتساؤل أو معرفة حجم الخطر أو الطريقة الأنسب للتعامل مع الموقف.
لما يتنحى العقل جانبا فلا مجال سوى للظلم والندم.
أما عن شعب الميكروباص؛ فإن الصامتين منهم لا يمكننا الاستدلال من صمتهم على أفكارهم وطريقة تفكيرهم ربما الصمت دليل على الاستنكار مع عدم المواجهة أو اللامبالاه !.. لا أدرى.
لكن من تلفظوا بسب المتهم والشماتة فيه وتشجيع ما يحدث يمكن الاستدلال على معاناتهم من نفس الأمراض الفكرية التى يعانى منها أبطال المشهد.
ترى هل سرعة الاستجابة لنداء “امسك حرامى” مرض خاص ببعضنا لما نسمع هذا النداء فى شوارعنا فقط ؟!
لا أعتقد ذلك ! إن الأخبار التى تتصدر القنوات والصحف ومواقع التواصل تشبه كثيرا نداء”امسك حرامى” فماذا نفعل عندما يقابلنا خبر ما؟!
إننا فى الغالب نتأثر فكرا وعاطفة كما يريد لنا الإعلام؛ فنثور على هذا ونتعاطف مع ذاك ونتعصب لجهة ونخوِّن أخرى ونُقْحم أنفسنا فى الانتماء لهذا التيار ومعاداة ذاك.
لا أريد منك أن تكون سلبيا بلا رأى فيما يحدث حولك ، بالعكس فإني –كما أريد لنفسى- أريد لك أن تُكَوِّن رأيك على أساس من المعلومات الصحيحة قدر استطاعتك. لذلك قبل تلقى الأخبار أصلا؛ علينا أن نتعلم بشكل كلى مثلا ما الذى لا بد أن يحرك العالم هل المصلحة المادية أم العدالة لجميع البشر؟!
إذا كنت مؤمنا بأن العدالة واحترام الإنسان هى المبادى التى يجب أن يتحرك وفقها العالم وأنظر للسياسات الأمريكية –مثلا- فى تعاملها مع الدول فأراها ضد المبدأ الذى أؤمن به ، ما حدث فى العراق مثلا وما يحدث فى فلسطين أدلة واضحة على السياسة الأمريكية؛ فليس من حسن العقل-بعد أن حكمت على السياسة الأمريكية بأنها مخالفة لما أؤمن من مبادئ- أن أسمع خبرا يمجد فى أمريكا وحسن تعاونها مع جانب ما وحرصها على السلام العالمى و أصدق أن هذا ممكن أن يأتى من أمريكا!، أو الجهة التى تتعاون مع أمريكا من أجل السلام!، أو يكون قائل الخبر أو المؤسسة الإعلامية محل ثقة تامة كمصدر للمعلومة! أو أن رغبة هذه الجهة الإعلامية فى انتمائى وتعصبى لجهة ما هى رغبة مجردة صادقة فيها خير ونفع لى ولمجتمعى الإنسانى حاضره ومستقبله!
وبعد تحديد المبادى التى لا بد وأن يتحرك وفقها عالم البشر فإن مسؤوليتنا تجاه أنفسنا توجب علينا عدم الاستجابة للأخبار المنقولة كما استجاب أبطال مشهد شارعنا لنداء “امسك حرامى” . علينا التحرر من الاستجابة السريعة غير المتأنية التى تُقدس المصدر الواحد للخبر وكأنه لا يمكن أن يقول إلا صدقا. علينا التخلص من داء تنحى العقل وغلبة العاطفة والانفعال الزائد كى نزيل عن أعيننا غشاوات كثيرة من التعصبات المزيفة لعلنا نعرف حقيقة ونعمل بها فلا نشارك أعداءنا فى تدمير أنفسنا أكثر من ذلك!
وأخيرا أريد أن أنبهك لشيء ما : إن المشهد الذى نقلته إليك من “الميكروباص” هو خبر أحادى المصدر (أى مصدره الكاتب فقط) لذلك هو خبر مشكوك فيه بالنسبة لك.
وإذا كان أسوأ الظن أن هذا المشهد لم يحدث فهذا لا يضرك فى شيء؛ لأنى أردت بالمشهد وتفنيده عرض مرض فكرى يُعانى منه الكثير منّا.
وقصدت بهذا التنبيه الأخير التأكيد على أن الخبر أحادى المصدر ليس يقينيا حتى وإن نقله الملايين بعد ذلك عن هذا المصدر الواحد. ونقصد بالخبر أحادى المصدر: الخبر الذي نقله شخص واحد أو مصدر إعلامى واحد أو مجموعة تنتمى لاتجاه معين لها فى انتمائها مصلحة ووارد اجتماعهم على الكذب من أجل المصلحة.