مقالات

فلسفة الصراعات الصين نموذجا

 

بالرغم من التطور العلمي والتكنولوجى الرهيب الذي توصلنا إليه، إلا أننا لم نستطع التغلب على الصراعات التي تحدث في شتى المجالات “السياسية والدينية والفكرية” والتي تحدث بين الدول والشعوب وحتى بين أصغر الجماعات التي ربما يكون لها هدف واحد تسعى لتحقيقه، ومما يدعو للتأمل والرعب في الوقت ذاته هو كم المبالغ التي يتم تكريسها لتطوير الأسلحة واستراتيجيات الحروب…

هذا الوضع المعقد هو نتاج استخدام “العقل” الذي تميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات ومن خلاله استطاع السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمته، والأهم من ذلك أن هذا العقل باحث عن الحقيقة -حقيقة الوجود والغاية منه والسعادة كيف يمكن تحقيقها- التي منها يبدأ رحلته في تحقيق غايته والدفاع عنها إذا لزم الأمر، ولكن عندما تختلف الرؤى وطرق التطبيق فمن الطبيعي أن تبدأ الصراعات والصدامات بمختلف أنواعها وأشكالها، الأمر الذي أدى إلى جعل البعض يرفض فكرة وجود “حقيقة” وغاية من الحياة من الأساس؛ هربا من الصراعات والصدامات مع الآخرين ولكن مهما حاول الإنسان تجنب الصراع بعدم تبني أي رؤية فإنه بذلك يتبنى رؤية دون أن يشعر وهي معاداة كل من لديه رؤية، وفي أغلب الأحوال سيخدم الرؤية التي يمكنها اللعب على وتر الشهوات وإرضاء الغرائز والمشاعر؛ فهي الطريق الأسهل والأقرب لكل من لا يستخدم عقله ويحاول تكوين رؤية من خلاله، وعليه وجب فهم طبيعة الصراعات حتى نستطيع أن نحدد متى يختار الإنسان أن يقف في صف أحد الفريقين لكونه على حق، ومتى يعتزل الفريقين لكون الاثنين على باطل.

” وسنتخذ من “صين” القرن السادس قبل الميلاد نموذجا نعرض عليه مقصدنا من فلسفة الصراع وكيفية تمييز الحق من الباطل”

صراع الباطل والباطل

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يزخر التاريخ بالكثير من الأمثلة على الصراعات التي تكون هي فى الأساس “أساس” قيام الحضارات بمختلف توجهاتها، فمنها من أفرط في المادية ومنها من أفرط في الروحانية، وتستمر حركة التاريخ كما يقول “توينبي” بين هذه العملية، فعل إفراط يقابله رد فعل تفريط فيما تم الإفراط فيه وهكذا دواليك، ومثال على ذلك المجتمع الصيني قديما الذي كانت تحكمه القيم المادية والأرستقراطية والطبقية، يسوده النظام الإقطاعي وحب الفخامة والترف وعبادة الجمال واللذة أى “إفراط شديد فى المادية”، وكرد فعل لهذا الإفراط تظهر “الطاوية” على يد “لاوتسو” الذي دعى إلى نبذ التطور المادي وترك الحياة الاجتماعية وكراهية اللذة والمادة ونبذ الطبيعة، ورأى أن الحكيم لا يجب أن يتدخل فى مسار الأشياء أي “تفريط شديد فى المادية” وهذا الصراع باطل لأنه لا يتعامل مع حقيقة الإنسان كما يجب لأن الفريقين يغفلان أحد الجوانب الأساسية للإنسان “الجسد وما يحتاجه من مقومات والروح وما تحتاجه من قيم لتسمو وترتقي” وبناء عليه يصبح المجتمع في الحالتين ظالمًا لأنه لا يحقق للإنسان متطلباته واحتياجاته الحقيقية…

صراع الحق والباطل

وفي ذلك الوقت يظهر “كونفشيوس” برؤية جديدة تجمع بين الأخلاق والقيم والطقوس الدينية وبين الممارسات الاجتماعية والمشاركة في المجتمع والاهتمام بالأسرة وتلبية احتياجات الجسد، وحس الدولة على توفير احتياجات المواطن المادية وتشكيل طبقة من المعلمين الذين سيكونون بمثابة القدوة في المجتمع والذين من خلالهم سيتم تعليم الشباب ما هو الحق وما هو الخير وكيف يطيع والديه فيما هو صواب وينصحهم إذا أخطؤوا، مع الأخذ في الاعتبار احترامهم إذا رفضوا النصيحة، وهؤلاء الشباب فيما بعد سيكونون النواة الحقيقية لإنشاء الأسرة الصالحة والتي ستكون بدورها النواة الحقيقة لبناء المجتمع الفاضل، سعى كونفشيوس لنشر فلسفته ورأى أن السبيل الأفضل لانتشارها وتطبيقها هو بأن يصبح ذا شأن كبير في الدولة أو أن يتم تبني فلسفته من قبل حكام المقاطعات، وبالفعل في عام 509 ق.م عرض الدوق تانج عليه أن يعمل قاضيا لمدينة “لو” وبعد مرور سنة أصبحت المدينة خيرة متوازنة وقلت فيها الجريمة وعمت فيها الفضيلة، وقد أتاح ذلك لعدد كبير من تلاميذه فرصة الحصول على منصب مهم فى ذلك الوقت، وبالطبع أقلق هذا الوضع الولايات المجاورة؛ حيث أن فكر كونفشيوس وتطبيقاته تشكل خطرا على أنظمتهم ومصالحهم، لذلك دبروا المكائد لصرف الدوق “لو” ووزرائه عن أعمالهم حتى تضعف المقاطعة ويعم فيها الفساد كسابق عهدها. فأرسلوا إلى الدوق بعثة مكونة من عدد وفير من الفتيات الجميلات وأنهمك الدوق ووزراؤه فى الاستمتاع برقص الفتيات، وقد حاول كونفشيوس توجيه نظر الدوق إلى هذا الخطر ولكن دون جدوى، الأمر الذي جعله يتنازل عن منصبه ويبدأ في التركيز على الشباب وتعليمهم ليكونوا ذا أثر حقيقي في المجتمع فيما بعد… وهنا يظهر فكر كونفشيوس الذي سُمى بصاحب “الوسط” كنوع من الاعتدال والتوازن حيث لا إفراط ولا تفريط بل الصحيح هو التوازن والتناغم بين الشقين المادى والمعنوى… ولكن هل توقف الصراع عندما سادت الفضيلة؟ بالطبع لا فمازال هناك من يرى الصالح فى الإفراط في المادية فأخذ يحارب التوازن والعقلانية…

خلاصة

نشوء الحضارة وتطورها مرتبط في الأساس بالمبدعين أصحاب الرؤية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع كالأنبياء والفلاسفة والمنظريين والمفكريين، هذه هي رؤية أرنولد توينبي صاحب نظرية التفسير الحضاري القائمة على قانون التحدي والاستجابة؛ فالمجتمع عندما يواجه مجموعة من التحديات الفكرية في المقام الأول والاقتصادية والاجتماعية في المقام الثاني كنتيجة للتحدي الفكري والثقافي فإن مبدعي هذا المجتمع يبدؤون فى الاستجابة لتلك التحديات التي تواجه مجتمعهم وهؤلاء المؤثرين لكي لا يقعوا في الإفراط أو التفريط أثناء تكوين رؤيتهم عليهم أن يروا الأشياء على حقيقتها ليتمكنوا من التعامل مع الواقع بأفضل طريقة ممكنة وبالتبعية تعم السعادة والطمأنينة على مجتمعه، حتى في ظل صراعه مع الباطل وفي صراعه مع نفسه من أجل السيطرة على شهواته ومشاعره وفي صراعه مع واقعه الذي انتشر فيه الجهل والفساد نتيجه سيادة الباطل… ولكن كيف يروا الأشياء على حقيقتها حتى لا يقعوا فى الإفراط والتفريط؟

عن طريق قراءة الواقع بالأدوات التي تتناسب مع طبيعة الأشياء الموجودة فيه فلا يكتفي باستخدام أداة أو اثنين لقراءته لأن رؤيته ستكون قاصرة، فبالعقل يمكن إدراك المفاهيم الكلية “كوجود إله وأنه كامل ومصدر كل قدرة وعلم، وبالعقل أيضا يمكننا تعريف العدل ومعرفة ماهية السعادة كنوع من التوازن بين تلبية الاحتياجات المادية والروحية، ولماذا الأسرة؟ ولماذا الدين؟ وغيرذلك من المفاهيم… ومن خلال الفهم الصحيح للدين الصحيح يمكننا معرفة كيف نعدل وما هى القيم والأخلاقيات التي يجب أن نتخلق بها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالعلم والتكنولوجيا يمكننا تطوير القدرات البشرية وإتاحة المزيد من فرص الراحة والرخاء والقوة للمجتمع الإنساني.

اقرأ أيضاً:

التشخيص قبل التعليم ( المُعلم المُعالج) … قصة الطفل والمُعلم

الحياد عن الفطرة “لا تخربن حدائقكن” .. المرأة والمجتمع

مسار إجباري ( الفلسفة والدين ) … هل يتعارضان؟

محمد خيري

عضو بفريق بالعقل نبدأ القاهرة