هل الوجود نعمة أم نقمة ؟ – المشكلة تكمن في واضع النظام أم في الإستخدام السئ ؟
بين واضع النظام ومستخدميه
الإنسان كائن اجتماعى بطبعه كما قال أرسطو، فهو يحتاج للاجتماع مع غيره لتلبية احتياجاته المادية والنفسية والروحية؛
فالطفل على سبيل المثال لا يمكنه النمو والتطور والارتقاء مهاريا وجسديا ومعرفيا ونفسيا إلا فى ظل رعاية أبويه وخبراتهما وقدراتهما المعرفية التى تتيح لهما فهم طبيعة طفليهما واحتياجاته ومن ثم العمل على تلبيتها لينشأ نشأة سوية،
والمريض لا يستطيع معالجة نفسه لضعف جسده وعلمه، فيحتاج للطبيب ليخلصه من آلامه، والطبيب لا يمكنه بناء المستشفى بنفسه ولا زراعة المواد الغذائية اللازمة له ولأسرته بنفسه ولا يمكنه صناعة حتى الدواء بنفسه ولا يمكنه إنشاء معامل التحاليل وشركات الأدوية ونقل تلك الأدوية بنفسه، بل إنه يحتاج للمقاول والعامل والمهندس المعمارى والفلاح والمهندس الزراعى والكميائى والممرض والصيدلى والسائق والفيزيائى والكثير والكثير ممن إذا حاولنا حصرهم لن نستطيع…
وهكذا كل منا أيًّا كانت قدراته أو ممتلكاته فإنه يحتاج لغيره؛ فنحن بنى الإنسان ناقصون ومُحتاجون ولا يمكننا تلبية احتياجاتنا إلا باللجوء لبعضنا البعض، ليس فقط لأننا مختلفون فى القدرات والاحتياجات ولكن أيضا لأننا متفاوتون فى نفس القدرة المعرفية والممتلكات المادية، فمثلا عالم الكيمياء له طلاب ينهلون من علمه وهم أيضا متفاوتون فى القدرة على المعرفة فى مجال الكيمياء فيلجؤون لبعضهم البعض،
والرياضى القوى يكون بمثابة القدوة والمعلم لمن هم أقل منه قوة والعارف التقى المتقرب لله يُقبل عليه طلاب العلم لينهلوا من علمه، وقد أشار الفارابى لحالة الإنسان هذه بأنه دائما ما يكون رئيسا من جهة ومرؤوسا من جهة أخرى…
إذا فكيف يحدث الصراع فى ظل هذا النظام ؟ ولماذا المعاناة ولماذا أيضا نجد من يرى الحياة كوسِيلة لتعذيب البشر ليس إلا؟
الإشكالية في النظام أم الإستخدام ؟
يرى البعض أن الإشكالية تكمن فى طبيعة النظام القائم نفسه وواضعه وليس فى مستخدميه، فالاحتياج أو العوز الإنسانى يجعل كل إنسان يسعى لتلبية احتياجاته وإزالة معاناته ولكنه يتيح له أن يقوم بذلك بالطريقة التى يراها مناسبة له كنتيجة طبيعية لحرية إرادته وقدرته على الاختيار، فهذا النظام يتيح لمن يملك، أن يجور على من يحتاج إذا أراد أن يمنع عنه ما يلبى احتياجه،
وبما أن الإنسان ناقص علم وقدرة، ويمكنه باختياره أن يطلق العنان لشهواته وغرائزه ولا يكبح رغبته فى التملك والسيطرة والتسلط، ومن الممكن أيضا أن يقوم بتغليب عواطفه ومشاعره -من حب وكره وخوف وحزن وسرور وحقد- فى أحكامه وتعاملاته مع من حوله، أى أنه فى أغلب الأحيان سيكون فعله ظالما مع نفسه ومع غيره، وعليه فالنظام القائم بما أنتجه من مجازر وحروب ومجاعات وظلم ومعاناة وشر يجب تغييره والسخط عليه، بل وفى بعض الأحيان محاكمة واضعه -وحاشاه- كما فى فلمى:
“…God on trial” و”The Sunset Limited”
إذا فهل تكمن الإشكالية حقا فى طبيعة النظام وواضعه أم فى فهمه وكيفية التعامل معه؟
للإجابة على هذا التساؤل سنحتاج إلى فهم طبيعة ” واضع النظام ” لنتفهم لماذا وُجد النظام بتلك الطريقة وكيف يمكن أن نتعامل معه، فلا يمكن الحكم على الفعل دون فهم طبيعة الفاعل، وحتى لا نظل فى هذه الدائرة المفرغة التى وضعتنا فيها الأنظمة التى تجاهلت وجود واضع للنظام من الأساس وتجاهلت صفاته ومدى اتصاله بمخلوقاته، والسؤال الأهم فى هذه الحالة هو “هل من الممكن أن يخلق الله هذا النظام بهدف الظلم والشر والمعاناة لمخلوقاته؟”
أسباب نشوء الظلم
الظلم لا ينتج إلا عن طمع أو احتياج أو عدم علم باحتياج المحتاج أو عدم مقدرة على إعطاء كل ذى حق حقه، فالأب على سبيل المثال هو “رب” الأسرة والموكل إليه تلبية احتياجاتهم ورعايتهم وهو المسؤول عن تكاملهم، فمتى يكون الأب عادلا مع أولاده ومتى يكون ظالما، وبمعنى آخر ما الذى يحتاجه الأب ليعطى كل منهم حقه؟
فى البداية سيحتاج إلى “العلم” الكافى باحتياجات أولاده المادية والروحية معا، ثانيا سيحتاج ليتجرد عن مشاعره تجاه أولاده فمثلا لا يمكن أن يعدل بينهم إذا طغى حبه أو كرهه لأحد أولاده على الآخر، وإذا امتلك العلم واستطاع السيطرة على مشاعره فمن الممكن أن تسيطر عليه شهوته فيطمع فى ما هو من حق أولاده فيظلمهم، إذا فهو بحاجة إلى السيطرة على شهوته فى السيطرة والتملك الناتجين عن “نقصه”، ولكن هل هذا كافٍ ليعدل بينهم؟ لا، لأنه إذا علم احتياجاتهم وسيطر على مشاعره وشهواته ولم يمتلك “الإرادة والقدرة” على تلبية احتياجاتهم فلن يعدل بينهم بالضرورة!
ما هي طبيعة واضع النظام ؟
بناء على ذلك هل يمكن أن يظلم أو يخلق الله هذا الكون بهذا النظام بغرض المعاناة والظلم لمخلوقاته؟ قطعا لا، كيف ذلك وهو الكامل الذى لا يحتاج لشىء والكل فى حاجة إليه وهو العالم بكل احتياج وقدرة لدى مخلوقاته وهو القادر على كل شىء ومنبع كل قدرة وهو الحكيم وهو المريد لكل خير لمخلوقاته؟!
هذه هى صفات الخالق العادل التى لا يمكننا أن نتعامل مع أى شىء فى نظامه إلا بمعرفته حق المعرفة وفهم أن وجودنا ما هو إلا أعظم فرصة أتاحها لنا الله لنتعرف على منبع العلم والخير والقدرات والكمالات ولنتقرب إليه ونرتقى ونتكامل، لا لحاجة له ولا بغرض اللهو بنا والتسلية كما يرى البعض ولا بغرض رؤيتنا نتناحر ونتصارع ونعانى –حاشاه- بل إن احتياجنا ما هو إلا نتيجة طبيعية وحتمية لابتعادنا عن الكامل سبحانه وتعالى، وصراعاتنا ما هى إلا سوء استخدام للفرصة وسوء فهم للمنهج أو “الكاتالوج” الذى بُعث إلينا لنهتدى ونرتقى ونتكامل…
الحوادث والكوارث والأمراض
ولكن ماذا عن الحوادث والكوارث الطبيعية والأمراض التى لا دخل للإنسان فيها؟
لا يمكن اعتبارها إلا مصدرا للخير فلا حاجة للخالق ” واضع النظام ” بتعذيبنا ورؤيتنا نعانى ولا يمكن أن نتعامل مع المعاناة على نهج من لم يفهموا طبيعة الخالق فقاموا بقتل المريض الذى لم يتوفر دواؤه بعد؛ بحجة أن من الرحمة إيقاف معاناته وإزالة آلامه وكأن المخلوق أحكم وأعدل وأرحم بالمخلوق من خالقه!
فلماذا مثلا لا نرى “المعاناة” كوسيلة لرؤية ضعفنا واحتياجنا الحقيقى وإيقاظنا من غفلتنا وانغماسنا فيما هو مادى وفانٍ وإعادة توجيهنا وإرشادنا إلى كل ما هو روحى ومعنوى وباقٍ ولماذا لا نرى المعاناة كوسيلة لتذكيرنا بالرجوع إلى مصدر الخير والسعادة والاطمئنان والعلم والقوة والشفاء والحياة والخير والكمال –الأشياء التى يسعى إليها كل إنسان ولكن يغفل عن الطريق الصحيح للوصول إليها بسبب الانغماس فى المادية والبعد عن التأمل والتفكر- ومن ثم تطويرنا والارتقاء بنا وزيادة وعينا بطبيعة الدنيا،
مثال الأب الذى يفقد أولاده أو زوجته بسبب مرض ما أو فى إحدى الحروب فتتوقف حياته تماما بدلا من أن يعيد التفكير فى أن التعلق الحقيقى لا يجب أن يكون بالفانى بل بالباقى وأنه هو سبحانه وتعالى العالم باحتياج مخلوقاته والأصلح لهم، لماذا لا تكون الأمراض والكوارث والحوادث المفاجئة وسيلة لنفهم أن الدنيا ليست دار الاستقرار أو لنشعر بالنقص الحقيقى “المعنوى” والذى نغفل عنه فى ظل الاستمتاع بالنفوذ والشهرة والمتع المادية أو كوسيلة لفهم أن كل هذه الأشياء وسائل لا غايات لنسعى إليها ونتمسك بها بتلك الطريقة التى هى السبب الحقيقى فى كل صراع…
يقول ابن عطاء الله السكندرى “من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان قيد إليه بسلاسل الامتحان”…
خلاصة
النظام الذى ينتج عنه شر لا يعنى بالضرورة أن واضعه يريد الشر بمستخدمى النظام، خصوصا عندما يكون واضع النظام بتلك الصفات، فالمعلم على سبيل المثال يضع تلاميذه فى الاختبار ويعلمهم كيفية اجتيازه ويعطيهم الفرصة ليرتقوا ويزدادواعلما ويتوصلوا لأقصى ما يمكنهم الوصول إليه، ولكنه غير مسؤول عما يفعلونه فى ذلك الاختبار ولا عن مدى التزامهم بقواعده التى علَّمها لهم أو عن نتيجة فعلهم لذلك؛ فهم مختارون،
فالله سبحانه وتعالى ” واضع النظام ” بعلمه المطلق وقدرته وحكمته وكماله ورحمته لا يمكن أن يخلق بهدف ظلم مخلوقاته، فالظلم نقص والنقص لا يليق بالكامل، بل إن الأزمة الحقيقية تكمن فى كيفية تعاملنا مع ما بعثه لنا من هدى ومدى التزامنا به ومدى تفكرنا فى حقيقة وجودنا والغاية منه ومدى حرصنا على الحقيقة ومدى صبرنا على تحصيل العلم والمعرفة ومدى تحملنا للشدائد التى من المؤكد أنها فى صالحنا طبقا لصفات خالقنا الذى أتاح لنا الفرصة لمعرفته والتقرب إليه ووضع لنا هذا النظام لنتكامل لا لنتصارع ونتناحر على ما هو مجرد وسيلة لاستكمال رحلة العلم والمعرفة والتقرب إلى مصدر كل ما نحتاجه، فهل سنغتنم هذه الفرصة كما ينبغى أم أننا سنظل نتصارع على ما لا ينفع إلا إذا -وفقط- تم توجيهه وتسخيره فى خدمة الغاية الكبرى؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وصحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك)
اقرأ أيضاً:
لماذا يتركنا نتأرجح بين الألم والملل ؟
هل هناك سبيل للخلاص من المعاناة ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب