الحراك الاجتماعي: لماذا لم نعد نهتم بالقضايا الأساسية؟
لا يمكننا في العصر الحالي أن نهمل دور الحراك الاجتماعي في تغيير واقعنا الذي نعايشه، مع بعض الملاحظات الصارخة لهذا التأثير كفترة “الربيع العربي” والذي غير فيها الحراك الاجتماعي كل مظاهر الحياة لدرجة أن ما قبل هذه الفترة لا يقارن بما بعدها، والبعض الآخر من الملاحظات الأكثر هدوءا كحركات النظافة التي تقوم بها التجمعات السكنية بين الحين والآخر أو حركات التشجير وتزيين الميادين والشوارع التي تقوم بها هذا المنظمة أو هذا الحي، وإذا استعرنا أمثلة من الحياة الغربية فسنجد أن أولياء الأمور في مدرسة معينة يعينون لكل يوم من الأسبوع أحد أولياء الأمور من أحد عائلات الطلاب ليقوم بتوصيل أبناء هذه العائلات من وإلى المدرسة! كل هذه المحاولات تعبر عن قدرة للمجتمع أن ينظم نفسه ويقسم المهمات على أعضائه ليحقق هدفًا معينًا.
وطالما كانت هناك مشكلة تواجه المجتمع يريد حلها أو مكاسب معينة يطمع في تحصيلها فإن طريقة الحراك الاجتماعي ستظل دائما إحدى الوسائل التي يمكن أن نستخدمها لتحقيق هذه الأهداف ومن بين الوسائل الأخرى المتوفرة كالحراك الفردي أو الحراك الحكومي أو النظامين، بيد أن قلة العائد المتوقع من الحراك الفردي والبطء البيروقراطي الممل المتوقع من الحراك المؤسسي، جعل في بعض الأحيان الحراك الاجتماعي أحد أكثر الوسائل كفاءة وجاذبية.
ونحن نريد اليوم أن نسلط الضوء على النوايا الخطرة والهدامة والتي يراد بها استغلال هذه القدرة الفعالة في تغيير واقعنا الاجتماعي ولأجل أهداف سنصفها الآن بالسيئة وسنترك لكم الحكم على حقيقتها بعد هذا النقاش.
وطالما أن الوسيلة لا تبررها إلا الخلفية التي تسببت في تبنيها والغاية التي تستخدم لأجلها، فإن وسيلة كالحراك الاجتماعي لن يتضح لنا كيف يتم إساءة استخدامها قبل معرفة خلفية الواقع الاجتماعي الذي نعاني منه في البداية. فممَّا لا شك فيه أن أزمة الزواج هي من المشكلات العويصة التي ما زالت هي العنوان الأكبر لكل مشاكلنا الاجتماعية؛ فمشروع تكوين الأسرة هو المشروع الذي تجتمع فيه كل عوامل العدالة الاجتماعية التي يوفرها المجتمع للفرد؛ فكلما كان المجتمع مُوفِّرا للمناخ الذي يشجع قيام الأسرة ماديا ونفسيا كلما زاد نجاح هذا المشروع واستطاع توفير الأجيال الجديدة المستقرة نفسيا والقادرة على دفع عجلة النمو للأمام.
أما في حالة وجود مناخ عدائي لقيام الأسرة كما هو الحال في مجتمعنا اليوم، مع ندرة فرص العمل وارتفاع تكاليف الزواج وتثاقل أعباء المعيشة الكريمة على الأسرة، فإننا نجد أن حياة العازب تصبح نسبيا أسعد بكثير من حياة رب الأسرة الكادح والذي بالكاد يوفر قوت يومه له ولأسرته. وفي مثل ذلك المناخ لا نتوقع أن يزدهر مشروع الأسرة ولا أن يكون قرار الزواج قرارًا سهلًا أو مستحبًا لدى الجميع، ومن ثم يتحول لِهَمٍّ كبير وحاجز ضخم لا يجتازه إلا القلة. وسنترك الحديث هنا عن سبب وجود هذا الحاجز الضخم بين الفرد والأسرة لنقاش آخر (راجع هذا المقال).
ولنركز الآن على قضية أخرى ذات علاقة وطيدة بهذه الأزمة…
إن قضية تعسر الزواج لها تبعات تماما كالزلزال الذي له توابع، وربما يعرف من عاصر مثل هذه الكوارث الطبيعية أن توابع الزلزال تكون أكثر كارثية في قوتها التدميرية من الزلزال الأصلي، وكذلك هو الحال تماما في قضية الزواج. إن الزواج يعالج في المجتمع قضيتين إحداهما تعمل على مستوى الفرد والأخرى تؤثر على مستوى المجتمع ككل، فمن ناحية يوفر الزواج مشروع الأسرة والذي له فوائد اجتماعية سبق أن أشرنا لها، ومن ناحية أخرى يعتبر الطريق السليم قانونا وشرعا لتفريغ الطاقة الجنسية لدى الفرد، هذا الوحش المكبوت والمستفز دائما والذي يهدد في حالة انفلاته بطريقة غير متحكم فيها أن يدمر كيان المجتمع من الأصل.
ونحن نشاهد تبعات هذا الكبت الذي تعاني منه طبقات المجتمع المختلفة من حالات التحرش المتزايدة وحالات العلاقات اللاأخلاقية بين الشباب في الجامعات والمنتديات الاجتماعية كالنوادي وشبكات التواصل الافتراضية وحالات إدمان المواقع الإباحية، بل ويمكننا أن نرجع بنسبة كبيرة حالات كثيرة من إدمان المخدرات كمخرج وهروب من هذا الكبت الجنسي المتراكم. ولا يمكننا إلا أن نعتبر تفشي مرض الدعارة إلا كأحد التبعات الخطيرة التي تنتج أيضا من هذه الأزمة، بينما تعتبر ظاهرة الشذوذ الجنسي هي آخر هذه الارتدادات العنيفة وأكثرها عنفا وخطرا وقدرة على تدمير كيان المجتمع بأكمله.
لا يمكننا في كل الحالات أن نرجع هذه الأوبئة الاجتماعية فقط لسبب الكبت الجنسي وإلا لما استطعنا تفسير تفشي هذه الأوبئة في الطبقات الغنية أو الأثرياء مثلا، غير أن المشكلة بين الطبقات الغنية في اتباع هذه الطرق الشاذة وغير الطبيعية في التنفيس عن الطاقة الجنسية أو لإدمان المخدرات مثلا ينتج في كثير من الحالات كنتيجة للملل من نمطية وسهولة الحياة المترفة بدلا من الفقر والحاجة وضغوط الحياة أو لانعدام القدرة على الزواج، ودائما ما كان الإنسان المعتدل محصورًا ما بين الإفراط والتفريط، فلا الثراء الفاحش لدرجة الملل المترف ولا الفقر المدقع لدرجة العجز والحاجة غير المشبعة يؤديان لأي سبيل مستقيم أو سوي، بل نراهما دائما يؤديان لكل ما هو ملتوي وشاذ وخبيث وغريب عن الفطرة الإنسانية الطبيعية.
وهنا نعود لدور الحراك الاجتماعي في مواجهة هذه الأزمة، فالمجتمع في جوانب كثيرة له خياران لا ثالث لهما: إما المواجهة لمنبع المشكلة وتجفيف مستنقعات البعوض الذي ينشر هذه الأوبئة الاجتماعية، أو اصطياد البعوض واحدة تلو الأخرى في محاولة قليلة الأثر في التحكم في أزمة المجتمع المتفشية، وبينما نجد في مثال المستنقع والبعوض كل السذاجة والحمق في أن نطارد البعوض بدلا من أن نجفف المستنقعات! إلا أننا عندما نواجه أزمة الزواج في المجتمع فإننا وبدون شك نفضل الحل الساذج وغير المجدي ونخاف أو نصاب بالجمود الفكري والعملي عند مواجهة أصل ومنبع المشكلة.
ولا شك هنا أن بعض المنظمات الاجتماعية المضللة والتي ربما تتبع أيديولوجيات وأفكار غربية وغريبة عن مجتمعاتنا الشرقية المحافظة بطبيعتها تستغل هذه المواقف لصالح نشر أفكارها السامة. ولذلك نراها تجيش المجتمع للدفاع عن حقوق الشذوذ الجنسي أو حقوق ظاهرة ما يسمى بالـ “سنجل ماذر” أو الأم المنفردة (وهو ليس إلا تعبيرًا دبلوماسيًا لتغليف وباء الدعارة والعلاقات اللاأخلاقية بغلاف سكري) وغيرها من الظواهر أو بالأصح الأوبئة الاجتماعية التي ظهرت كمردود لظاهرة تعسر الزواج في المجتمع.
ولنا هنا أن نتساءل بتعجب: ما هو الدور السيء الذي تلعبه هذه المنظمات؟ فنحن (كما يقول البعض) لا نرى إلا منظمات إنسانية رحيمة تهتم وتكترث بحقوق المستضعفين وتحاول تنبيه المجتمع الغافل لهذه الفئات المضطهدة لكي تنال حقوقها، فهذه المنظومات “الإنسانية” في منظور البعض ليست مؤذية بالمرة بل هي نافعة. ولكن المشكلة هي أن هذه المنظومات لها أسوأ الأدوار في تغفيل وتضليل دفة الحراك الاجتماعي بعيدا عن المصدر الحقيقي لكل هذه المشاكل وتبديد طاقة هذا الحراك على فرعيات المشكلة دون حل جذري وحقيقي لها. فأنا عندما أرى حراكًا إعلاميًا أو تنظيميًا أو توعويًا للتنبيه بخطورة قضية اضطهاد الشواذ جنسيًا أو “السنجل ماذر” مثلا وتحاول من خلال حراك اجتماعي معين “تطبيع” علاقتنا مع هذا الوباء الاجتماعي وتجعلنا نتقبله كاختيار اجتماعي ينم عن الحرية لا على أنه أحد التوابع الخطيرة لزلزال آخر كبير يهدد بانهيار كل ما يمثله مجتمعنا، فإنهم بهذا التضليل يقومون بجريمة وهو تضليل الوعي العام إما بادعاءات كاذبة أو بأشباه الأبحاث العلمية التي تحاول أن تقدم القضية على أنها أمر فطري جيني وليس مرض ووباء اجتماعي. أن تحاول تقديمه كسلعة جنسية وقناة تفريغ للشهوة ضمن قنوات أخرى كثيرة وليس كناقوس خطر يهدد الروابط الاجتماعية والأسرة المصرية والعربية.
وفي حين أنها تستطيع تجييش وحشد بعض الناس الذين قد انجرفوا للأسف عاطفيا وراء القضية دون دراسة أو موازنة للأدلة المطروحة بطريقة عقلانية، فإن هذه الطاقة الاجتماعية التي بالفعل نراها تتحرك للدفاع عن حقوق الشذوذ الجنسي أو “السنجل ماذر” كان الأولى بها أن تتوجه لأصل ومنبع هذه الكوارث الاجتماعية التي تحيط بنا، أن نضرب الوحش في رأسه وليس في أرجله العنكبوتية الفرعية! إن مثل هذه الحركات والقدرة على التحشيد لن تنجح في إقناعنا أن القضية التي تستخدم لها وسيلة الحراك الاجتماعي هي قضية حقة وشريفة تستحق التضامن معها، بل تثبت مدى التضليل الذي يتعمده الغرب في تدمير كل ما هو عزيز وأساسي لبقاء منظومتنا الاجتماعية والأسرية مترابطة.
إلا أن هذه القدرة على التحشيد تثبت في جانب آخر أنه إذا ما توفرت لنا الدراسة والتحليل العقلاني المنضبط لقضايا وأزمات المجتمع كالزواج مثلا فإننا يمكننا وبزخم أكبر أن نتحرك سويا كأفراد وشباب وأولياء أمور وإعلام نحو خفض سور متطلبات الزواج ونحو مستوى أفضل من العدالة الاجتماعية والمناخ الاجتماعي الصديق للأسرة. مناخ اجتماعي يكافئ ويشكر شبابنا الشجاع الذي يقرر أن يؤسس مشروع الأسرة وفق الضوابط القانونية والشرعية المنضبطة، بدلا من أن نبدد طاقتنا الاجتماعية بلا طائل أو نتيجة مثمرة.
وإنه لشيء محزن أن نرى العدد الملحوظ من النساء ومن الرجال والذين على الرغم من هذا الكبت الرهيب لديهم ورغبتهم في الزواج لا يجدون الحل والطريقة للخروج من هذه الأزمة فيلجأون لهذه الأساليب الملتوية للالتفاف على الأزمة وعلاجها بطرق مؤقتة لا دور فعال لها في إنهاء الأزمة بل تزيد من حدتها واستعارها؛ فنحن عندما نتوجه لتبعات زلزال أزمة الزواج نقوم بزيادة هذه الأورام السرطانية وتشجيعها والتطبيع معها لا مكافحتها، فنلقي بالوقود في النيران لتزداد الأزمة تعقيدا وهذه من الأمور المثير للتعجب والدهشة حقا!
إن هذا التبديد والاستخدام الخاطئ للحشد الشعبي والحراك الاجتماعي للدفاع عن القضايا الملتوية والشاذة التي تفتك بجسد الأسرة والمجتمع، لهو شيء مشين وخطر يجب أن نستفيق له ونتوقف عن تشجيعه وأن نمنعه من أساسه لا عن طريق العنف ولكن عن طريق سلاح أقوى وهو العلم، ذلك عن طريق زيادة ثقافتنا ومعرفتنا بالأمراض والأوبئة الاجتماعية والعلاجات التي تم استخدامها في المجتمعات التي واجهت مثل هذه الأزمة. ولعلنا نستمع الآن لصرخات المجتمعات الغربية التي تصاب شيئا فشيئا بالعقم الاجتماعي، فالشباب هناك مع قلتهم وتعاظم نسبة المسنين بالمجتمعات الأوروبية، يلجأون للشذوذ الجنسي أو للحياة الاجتماعية غير المسئولة (كالزنا والعلاقات اللاأخلاقية بين الجنسين) والتي لا يمكن أن تكون أسرة مترابطة وفعالة اجتماعيا، وبالتالي تعاني هذه المجتمعات من أزمة انخفاض مستوى التكاثر لديها دون الحد الأدنى المطلوب لحماية هذه المجتمعات من الانقراض، فهذه المجتمعات إذًا على حافة الانهيار والانتحار الاجتماعي والحضاري، ولا نتعجب حين نرى أن أصحاب رؤوس الأموال لم يجدوا طريقة للحفاظ على العمالة والوظائف ومكاسبهم الضخمة إلا باستيراد شعوب جديدة تماما؛ باستجلاب اللاجئين من مناطق التوتر السياسي والاستراتيجي المنتشرة في العالم! فهل هذا هو المصير الذي نود أن نذهب إليه بهذه السياسات الاجتماعية الغريبة؟
ولذلك فأنا أرى أن خيار إعادة توجيه دفة الحراك الاجتماعي نحو الأهداف الأكثر جدوى والأكثر منفعة للمجتمع كالعدالة الاجتماعية وخفض سقف مطالب ومتطلبات الزواج تسهيلا للزواج على الشباب هو الخيار الأصوب، والأرجح أن نختاره طواعية لا بالإكراه إذا ما ازدادت معلوماتنا حول حقيقة المجتمعات والأخطار التي تحدق بها من كل جانب جراء هذه الثقافة المادية الخبيثة التي تفسد وتشوه كل شيء طبيعي وتلقائي في حياة الإنسان، وهو هدف سيؤدي مع الوقت ومع استمرار تبنينا له إلى اختفاء هذه الأوبئة الفرعية الناتجة عنه تدريجيا، بشكل يجعل علاج الأقلية التي لا تزال مصابة بهذه الأمراض لأسباب ما خلقية أو اضطرارية خارجة عن إرادتها هو أمر سهل يمكن تداركه بالأساليب الطبية والعلمية المتوفرة، لكن أن نبرر للشذوذ ونجعله هو الطبيعي بينما الزواج وهو الأمر الطبيعي يتحول للأمر الشاق والمجهد وشبه المستحيل! فإن استمرار هذا الوضع لا يمكن أن يؤدي بأي حال من الأحوال لمجتمع قوي قادر على مواجهة التحديات الثقافية والحضارية التي يواجهها في عصرنا الحالي.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب