تعصب للرأى أو دفاع عنه؟
تعصب للرأى أو دفاع عنه؟
دائما ما يبحث الإنسان الطبيعى عن نقطة ثابتة يبنى عليها قناعاته وينطلق منها فى حياته وتعاملاته مع كل شىء، ولكننا نجد كثيرًا من الناس يستند إلى نقطة انطلاق “منهج” غير صحيح وعليه تصبح أحكامه وطرق تعامله مع من حوله لا تؤتى الغرض الذى يبحث عنه كل إنسان ألا وهو “المعنى والغاية من كل شىء والسبيل للسعادة الحقيقية” وإذا قمنا بمناقشة بعضًا من هؤلاء فى هذه القناعات وأقمنا عليهم الحجة نجد منهم من يبدأ فى التملص وإطلاق أحكام على من أقام عليه الحجة من قبيل: “أنت تدافع بشكل شخصى وتتهرب من الحقيقة” “إن عقلك متحجر”، “أنت عدو الدين/ العلم” أو يبدأ فى التشنيع عليه بوصفه بالمتعصب الأعمى، الهمجي الرجعي، المنحل المتحرر الكافر، الممول… إلخ، مما يدعونا إلى التساؤل حول طبيعة الإنسان وطبيعة الحجة والدليل وكيفية التفرقة بين من يدافع عن رأيه وبين من يتعصب لرأيه حتى لا نقع فى نفس الإشكال أو على الأقل نحاول الخروج منه بقدر الإمكان…
التنافر المعرفى
في عام 1954 تنبأت جماعة دينية في شيكاغو أن الساعة ستقوم في يوم محدد من ذلك العام وأنه على الجميع الاستعداد لهذا الحدث المصيرى وعندما سمع عالم النفس الأمريكى “فستنجر” عن هذا الحدث انضم ومساعده لهذه الجماعة بحجة أنهم مؤمنين بالنبوءة ولكن الغرض الحقيقى لانضمامهم كان دراسة سلوك وفكر الجماعة قبل وبعد اللحظة المحددة التى تم التنبأ بها، وقبل الموعد المحدد اجتمع مئات المتدينين منتظرين قيام الساعة ونهاية العالم، الجميع ينظر إلى ساعاته فى تأهب، دقت الساعة الثانية عشرة واستمر عقرب الدقائق بالمضي ولم تقم الساعة، وأبناء الجماعة ينظرون إلى ساعاتهم بدهشة ولا يجدون تفسيرًا لما يجرى! وبعد بضعة دقائق ظهرت القيادة العليا لهم لتقول إن الرب قد رحم العالم وأجل موعد قيام الساعة إلى يومٍ آخر سيتم تحديده لاحقًا.
بعد هذه التبريرات زال الاضطراب عن أبناء الجماعة وزال توترهم واستمروا في إيمانهم بعقيدتهم وعلى إثر هذه القصة، ألّف عالم النفس ليون فستنجر كتابه “عندما تفشل النبوءة” ووضع فيه قانونًا يعتبر من أهم قوانين علم النفس أسماه “التنافر المعرفي” وهو قانون يعبر عن حالة الفرد عندما يتعرض عقله لفكرتين متضادتين فيسبب هذا التضاد صراعًا فكريًا وتوترًا وقلقًا شديدًا لدى الإنسان فيسعى جاهدا للتخلص من هذا الصراع، وفى أغلب الأحيان يتم التخلص من هذا الصراع بالتحيز للتفسير الذى يتناسب مع معتقداته والدفاع عنه لأن تبرير الأفعال وإعادة صياغتها أسهل بكثير من تغيير القناعات والمعتقدات، الأمر الذى يفسر سلوك الأشخاص المتعصبين لمعتقداتهم وآرائهم ومحاولتهم صد كل ما يخالفها، حتى إذا أقيمت عليه الحجة وظهر أن معتقداته لا دليل على صحتها…
إذا فكيف نميز بين من يتحيز ويتعصب ومن يدافع وهو على حق؟ وهل هذه النظرية تعنى أنه لا يمكن أن يغير أحد معتقداته مهما حدث؟
استقراء بسيط للواقع يخبرنا أن الكثير من الناس يغيرون معتقداتهم وآرائهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فنرى مؤمنا متزمتا يتحول إلى ملحد متزمت أيضا بعد أن يمر بتجربة قاسية كأن يفقد طفله أو عمله أو عائلته أو يمر بمرض مزمن يصعب الشفاء منه، ويتحول ملحدٌ متشددٌ إلى مؤمنٍ تقىٍ يسعى جاهدا لنشر أفكاره الإيمانية بعد إدراكه لطبيعة المعاناة والنقص فى الكون وأنه عين كماله… ونجد مشجعًا مستميتا لفريق ما يتحول إلى الفريق الآخر والعكس، وشخصا يرى المدخنين أشخاصًا ضعاف الإرادة غير مدركين لمدى الضرر الواقع عليهم من فقدان التركيز والقدرات البدنية وتدهور الحالة الصحية ويتحول رأيه إلى أنهم أقوياء مدركين للأضرار لكنهم ببساطة يتلذذون ويستمتعون بها ويستطيعون أن يتوقفوا متى أرادوا، بالطبع يقول ذلك بعد أن أصبح أحد المدخنين الآن!
إذا فالبشر يغيرون معتقداتهم وأفكارهم ولكن ليس دائما بسبب الحقيقة والواقع كمثال المدخن الذى ذكرناه ففى هذا المثال العادة والشهوة هى السبب فى تبرير أن التدخين مثلا بالرغم من أضراره النفسية والجسمانية إلا أنه أصبح الآن مصدرا للسعادة والراحة، وفى هذه الحالة يحتاج الإنسان إلى التجرد عن شهواته ومقاومتها لعلمه يقينا بالأدلة العلمية أنها مضرة وتضعف من قدراته على العمل والتربية والتركيز وغير ذلك من مقومات الحياة السليمة… ولكن فى بعض الأحيان لا تكون الأدلة العلمية كافية فربما يجيبنا صديقنا المدخن بأنه لا فائدة من الابتعاد عن الضرر فالفرق الوحيد بين كونى مدخنا أو غير مدخن هو أننى سأموت بصحة جيدة فما الفرق؟
وهنا نحن بحاجة إلى التركيز على المفهوم الحقيقى للحياة والموت، فصديقنا يرى الموت نهاية لكل شيء، وأن الأفضل أن نستمتع بغض النظر عن الضرر أو الأثر، ولكنه بحاجة إلى فهم أن الموت بداية لمرحلة جديدة “المرحلة الحقيقية”، وأن حياتنا الحالية ما هى إلا فرصة للارتقاء والتكامل والتطور، وأن الاهتمام بالجسد وصحته يساعدنا فى تنفيذ ما نريد وتحصيل العلم النافع وممارسة الأخلاق بين الناس ومساعدتهم على الارتقاء وإكمال نواقصهم بقدر المستطاع وأن هذا كله سيجعله حتما سعيدًا فى المرحلتين بعد أن كان فاقدا للسعادة والغاية فى الحياة الأولى.
وبذلك نكون وضحنا له الأدلة العلمية والعقلية على كون معتقداته ليست سليمة وأنه يرى الواقع بعدسة مشوشة، أما التنفيذ فلا يمكن لأحد أن يتدخل فيه إلا هو نفسه، فما نتحدث عنه هنا هو تغير الآراء والمعتقدات.
نتيجة
هناك من الناس من يؤمن ببعض الأشياء كحقيقة مسلمة ولكن دون دليل كالمؤمن بوجود إله أو المؤمن بنظرية التطور كحقيقة علمية، فالأول إذا بحث بتمعن سيجد الكثير من الدلائل التى تثبت ذلك ولكنه اكتفى بالدين الوراثى والثقافة السائدة، مما جعل إيمانه يرتكز على قاعدة هشة، مثال المؤمن الذى ألحد نتيجة مقتل أسرته فى حادث سير فتساءل “هل هذا جزائى لكونى مؤمنا مطيعا لك، لماذا تجعلنى أعانى وتترك من يعصيك”، فنتيجة لسوء فهمه لطبيعة الحياة والاختبارات الدنيوية وتعلقه بأسرته كمصدر وحيد للسعادة واعتبار العبادة مجرد تجارة “يعطى ليأخذ”، انهار إيمانه مع أول اختبار حقيقى له لأنه بُنى على عدم فهم لطبيعة الخالق وطبيعة المخلوقات التى يمكن الاعتماد عليها كمصدر ثابت للسعادة والراحة والاستقرار… وعلى الناحية الأخرى المؤمن بكون نظرية التطور حقيقة ثابتة لأنه يؤمن بالعلم والعلماء بغض النظر عن الأدلة العلمية وليس كما يدعى أنه يصدق بالعلم، فما توصل إليه العلماء حتى الآن هو أن نظرية التطور بها الكثير من الثغرات ولم يتم ملاحظة تغير للأنواع تجريبيا ولكن ما ثبت حقا هو عملية تكيف سلالات من نفس النوع…
خلاصة
ليس كل من يدافع عن رأيه متعصبا أعمى، وليس كل من يغير آراءه ومعتقداته مرنا ومتحضرا ومنفتحا، فالدليل الذى يصف حقيقة الواقع هو ما يحدد ما إذا كان الإنسان متمسكا بالوهم لكونه اعتاد سلوكًا ما وأن شهوته أو كبره هما من يمنعانه من الاعتراف بكون سلوكه الناتج عن فكره خاطئًا أو أنه مدافعا عن الحقيقة بحق، لا لحبه أو كرهه لنتائجها أو لأثرها عليه ولكن لأن ما يدافع عنه مطابقا للواقع بالدليل. وقد يكون تحول أفكار الإنسان بسهولة دليلًا على كونه قد كوَّن الأفكار الأولى له دون دليل قوى وواضح يثبت صحتها أو أنه لا يملك القدرة المنطقية الكافية التى تجعله يميز بين ما يتواقف مع معتقداته وما لا يتفق معها، كمثال المؤمن يقينا بوجود الله ومع ذلك يؤيد أن الحقيقة نسبية!
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب