الميراث للمرأة بين حكم العقل وحكم الفيسبوك – هل نتبع الحكم الشرعي أم لا ؟
منذ فترة قر يبة، أثيرت في تونس من قبل القيادة السياسية، مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث ، كخطوة على سبيل المساواة بينهما في كل شيء، وحدث اختلاف كبير في الشارع بين الناس حول هذا الأمر، واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، كل يُدلي برأيه في تلك المسألة الشائكة.
بين مؤيد ومعارض في قضية الميراث
انقسمت الآراء بين مؤيد بشدة، يدعو فعلا لتطبيق ذلك بدعوى الحداثة والتمدن، والبعض الآخر استنكر ذلك بشدة بدعوى الضلال، ومخالفة النص الديني الثابت؛ فأحكام المواريث وردت فيها نصوص قطعية تبينها وتوضحها.
في الحقيقة، الصراع الدائر وتبادل الاتهامات بالجهل والتخلف والرجعية، أو الانحلال واتباع الهوى وغيرها من الاتهامات، أصبح وضعًا مألوفًا تقريبا في كل قضية أونقاش تتم إثارته، حتى تتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى ميادين حروب كلامية ربما!
ربما لو امتلك المتحاورون منهجًا صحيحا للبحث في القضايا التي يناقشونها، وسعة صدر وخلق يسمح باحترام الآخر، ومناقشة رأيه وفكره لا شخصه، دون أن يعني ذلك بالضرورة قبول الخطأ أو إنكار الاختلاف، ربما لو أدركنا أن قضايا متل مسألة الميراث ، لا تصلح مواقع التواصل الاجتماعي لحسمها.. ربما لو تحقق ذلك لكان الوضع أفضل كثيرا.
في المسألة المطروحة، مقدار ما ترث المرأة ومقدار ما يرث الرجل في كل حالة من حالات درجة القرابة للمتوفي، هي مسألة تفصيلية جزئية وضحها النص الديني، فهل يا ترى يستطيع العقل الوصول لأحكام قطعية صحيحة فيها –وفي غيرها من المسائل التفصيلية- بمفرده دون الحاجة لنص ديني صحيح يرشده إليها؟ ما العلاقة بين العقل والنص الديني؟
عقل الإنسان
خلق الله الإنسان وميزه بالعقل عن غيره من الكائنات في عالمنا الدنيوي من نبات وحيوان، ولتميزه به، صار حقيقة إنسانيته في امتلاكه للعقل.
والعقل متسلحًا بقوانين التفكير السليم، يستطيع التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والسقيم. بالعقل استطاع الإنسان تحصيل العلوم والمعارف المختلفة، ووضع المعايير، وبحث في الإنسان نفسه؛ وجوده وسبب وجوده، والغاية من هذا الوجود، ودوره في الحياة، وأرشد الإنسان للدين الصحيح أيضًا.
يعرف الحكماء العقل بأنه القوة التي بها يدرك الإنسان المعاني، أو الأمور الكلية العامة مثل معنى العدل، مثلا: بأنه إعطاء كل ذي حق حقه، فنحن هنا لم ندرك موقف معين يعبر عن العدل، مثل أن يحكم حكم في مبارة ما بضربة جزاء لصالح فريق معين حين يستحقها، أو أن يعطي مدرس ما لطالبه ما يستحقه من درجات في امتحان مادته، أو غيرها من المواقف التي تعبر عن العدل.
نحن هنا ندرك معنى العدل بشكل عام، بغض النظر عن المواقف التي ربما تعبر عنه.
مثل أيضًا أن تقول أن الكتاب، هو عبارة عن مجموعة من الأوراق التي تحوي معلومات عن موضوع معين. هذا التعريف يعرف الكتاب بشكل عام أو بشكل كلي، لا يتحدث عن كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الرابع الإبتدائي مثلا ،أو كتاب قواعد التفكير المنطقي من إصدار مركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث مثلا، بل هو تعريف يشمل أي كتاب وكل كتاب.
ذلك النوع من الإدراك –إدراك المعاني أو الأمور الكلية- هو وظيفة العقل، وبه استطاع تحصيل العلوم، ووضع القوانين والمعايير والنظم وغيرها.
الأمور الجزئية المادية
والعقل يعرف حدود إدراكه جيدًا، فهو بمفرده يدرك المعاني أو الأمور الكلية فقط، أما الأمور الجزئية التفصيلية، فيحتاج لمعاونة غيره لكي يستطيع إدراكها. فإذا سألتك مثلا ما اللون الذي تم استعماله لكتابة كلمة “مشروعنا” في شعار “مشروعنا بالعقل نبدأ”؟ فإنك لن تستطيع بالتأمل العقلي وحده أن تجيب على السؤال إجابة صحيحة، أليس كذلك؟
بل إنك الآن على الأرجح تبحث عن الشعار في مكان ما، من الصفحة المعروضة أمامك لتعرف اللون، استعنت هنا بحاسة البصر لتستطيع إجابة ذلك السؤال.
فالعقل يحتاج للاستعانة بالحواس الخمسة، للتعرف على الألوان والأشكال والملمس والطعم والرائحة للأشياء من حوله، أو كما يسميها الحكماء العوارض المحسوسة أو الجزئيات المادية.
الأمور الجزئية المعنوية
وكما احتاج العقل لأداة أخرى هي الحس للتعرف على الجزئيات المادية، فإنه يحتاج لآداة أخرى أيضًا للتعرف على الجزئيات المعنوية.
العقل بمفرده يثبت وجود الإله الحكيم العادل، الذي هو مبدأ كل شيء، ويثبت أن كل منعم يستحق الشكر، فكيف تشكر هذا الإله إذن، على تلك النعم التي لا يمكنك إحصائها؟
لا يستطيع العقل بمفرده أن يتوصل لإجابة ذلك السؤال بشكل تفصيلي.
نعم، يمكنك أن تحاول الإجابة، وتقترح بعض الطرق، لكن أقصى ما يمكن لعقلك أن يصل إليه، هي إجابات ظنية كلها تحتمل الصواب والخطأ.
والعقل بمفرده يثبت أن العدل فيه خير وسعادة الجميع، لذلك فهو حسن، ولابد من العمل على تطبيقه، فيأخذ كل صاحب حق حقه. لكن هل يمكنك أن تصل بالتأمل العقلي إلى الحقوق التفصيلية لكل من الزوج والزوجة، بحيث لا يظلم أحدهما الآخر؟
في الواقع، العقل بمفرده مختص بإدراك الأمور الكلية، ولا سبيل له وحده لإدراك الجزئيات والتفاصيل، بل يحتاج لغيره من الأدوات، فكما احتاج الحس لإدراك الجزئيات المادية، فإنه يحتاج للنص الديني الصحيح، لإدراك الجزئيات المعنوية، مثل جزئيات وتفاصيل العبادات والمعاملات.
فالعقل يرشدنا للنص الصحيح، ويعرفنا عليه، ليملئ ذلك النص بهديه وهداه منطقة فراغ واسعة، لا يستطيع العقل بمفرده أن يملأها، منطقة تشمل جزئيات السلوك الإنساني -نقصد منطقة الجزئيات والتفاصيل التشريعية- وهي منطقة يسلم فيها الإنسان للنص الصحيح الذي قاده إليه عقله، بهدى من قواعد التفكير الصحيح الذي تقيه الزلل والخطأ،[1] خاصة بعد أن يثبت العقل أن هذا النص مصدره الإله الحكيم العليم بشئون خلقه، وبما يصلحهم.
ولا يستطيع العاقل أن يعتمد على حكم عقله وحده فيها، فكما أسلفنا، كل ما يستطيعه هنا هو حكم ظني يحتمل الصواب والخطأ، وتلك المنطقة الواسعة لها تأثير كبير على حياة الإنسان، بل ومصيره أيضا؛ لذلك يلجئ للنص الصحيح، يبحث عن إجابات يثق في صحتها ويعتمد عليها.
ماذا عن مسألة الميراث ؟
وبذلك يتضح أن مسألة الميراث ، هي مسألة يختص بتوضيحها النص الإلهي الحكيم، ولا حكم للعقل فيها بمفرده، كما أنها ليست مسألة رأي نعرضه على الفيس بوك، بل مسألة يتباحث فيها أهلها، ويحسمونها من حكمائنا وعقلائنا وفقهائنا الكرام.
الكثير من الجدل والصراع بين الآراء، والبلبلة والتشتيت والحيرة والتوهان، يمكن تجنبه وحسمه حين نعود للعقل، يهدينا ويرشدنا، متسلحًا بقوانين التفكير السليم فنستدل على الحق ونصل إليه.
مجتمعاتنا تحتاج لجُرعات من العقلانية، وجُرعات أخرى من الأخلاق وسعة الصدر!
[1] للمزيد حول العلاقة بين العقل والنص الديني يرجى مراجعة كتاب”فك التشابك بين العقل والنص الديني-قراءة في منهج ابن رشد” من إصدار مركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث
اقرأ أيضاً:
لماذا يتركنا نتأرجح بين الألم والملل ؟
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.