مقالات

الغرفة 101

الغرفة 101

“ربما لو انتبهت قليلاً لوَفرت كثيراً من العناء والصراع والألم، ربما لو كانت نظرتى للحياة حينها كما هى نظرتى الآن لاختلفت النهاية بالتأكيد”. قالت تلك الكلمات وصمتت بعدها قليلاً وعيناها سارحتان تملأهما الذبول والحسرة والندم.

لم أرد قطع خلوة حديثها الداخلى الذى أكاد أسمعه من فرط ما بدا عليها، فذهبت لأحضر كوباً من الماء حتى تهدأ قليلاً وعدت لأجدها قد غدت فى ثبات عميق.

فارقت الحياة وهى لم تتخطى الأربعين بعد، ولكن ملامحها كانت تحكى حكاية عجوز فى التسعين من العمر، من الواضح أن حياتها كانت تعج بالمآسى والصراعات المنهكة وأنها لم تحظَ بالقدر المطلوب من الطمأنينة والهدوء.

لا أعرفها، فأنا محامية صغيرة بعثنى رئيسى فى العمل لفهم مُلابسات قضية جديدة، قضية متهمة فيها تلك المرأة الشاحبة بسرقة مليونى دولار من طليقها، ولكن للأسف لم تحن لى الفرصة لمعرفة المزيد منها قبل أن تفارق جسدها وتتركه أمامى ممدداً على فراش الغرفة في المشفى  لا حول له ولا نفع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم أستطع شرب قطرة واحدة من كوب الماء الذى أحضرته، فوضعته على الطاولة وذهبت مسرعة لاستدعاء الطاقم الطبى ليأكدوا لى ظنى بوفاتها، ولم تنقض بضع دقائق حتى أتانى التأكيد فعلاً.

خرجت من الغرفة متجهة نحو الردهة محاولة تناسى الأمر برمته وعازمة على الرحيل من المشفى والعودة مباشرة إلى رئيسى وإبلاغه بنهاية القضية لأن المتهمة توفت ، وأثناء سيرى نحو باب المصعد لمحت ابنة السيدة المتهمة جالسة يغمرها هدوء مريب، أثار الأمر فضولى وقادنى إليها.

كانت هادئة جداً على عكس توقعى، ولكنه هدوء غير مريح أبداً، وملامحها تفضح عدم رغبتها فى الحديث مع أحد. تجاهلت فهمى لعدم رغبتها تلك وعزمت على بدء الحديث وقد كان.

بدأت بالحديث عن مدى أسفى وانزعاجى لخبر وفاة والدتها، ثم سألتها عما إذا كانت على دراية بشىء يخص قضية والدتها، فنظرت إلىّ بعينان باردتين وقالت: “هى السبب فى كل ما حدث، لو أننى أخذت نصف اهتمامها بذاك الغنى الأحمق لما انتهى بنا الحال إلى ما نحن عليه الآن وبهذا الشكل المفجع”.

استـنتجت بالطبع من كلماتها وبجانب بضع معلومات أولية عن المتهمة كنت قد قرأتها فى ملف القضية سريعاً قبل تركى المكتب ومجيئى إلى المشفى صباحاً بأن ذاك الغنى الأحمق هو طليقها الحالى، ومن الجلى أيضاً أنها كانت أم مهملة لابنتها.
حسناً الأمر بدأ يتضح شيئاً فشيئاً الآن.

أكملت حديثى معها لأفهم باقى القصة لأعرف أن المتهمة كانت فتاة جميلة تزوجت فى التاسعة عشرة من عمرها من رجل طيب النفس معدوم الحال، وأنجبت منه تلك الفتاة التى أتحدث معها الآن، ولكن بعد حوالى أربع سنوات من زواجهما مرض الزوج مرضاً شديداً قاده إلى الموت. وبعد شهور العدة تزوجت من الغنى الأحمق لتخرج من ظلام الفقر إلى نور الغنى على حد وصفها حينها وتركت كل شىء وسافرت معه نيويورك حيث شركاته وأمواله ونفوذه.

تركت ابنتها وهى فى الثالثة من عمرها مع جدتها المريضة التى تحتاج أصلا إلى رعاية واهتمام، باتت الفتاة تحكى وقد بدأت النظرة الباردة فى التلاشى لتحل محلها دموع هادئة مقهورة وهى تقول: “لم أنس اليوم الذى رحلت فيه، كنت فى الثالثة ولم أعى توابع قرارها وأنها ذاهبة بلا عودة. وعندما كبرت وفهمت من جدتى أنها اختارت تركى، كان الأمر كخنجر مؤلم مثبت فى جسدى. لمَ ينجبوننا وهم بلا استعداد للتضحية من أجلنا؟”.

توقفت البنت قليلاً لتتلقى أنفاسها ثم استرسلت فى السرد: “لا أنكر حقها فى الزواج بعد وفاة أبى، ولكن لِمَ اختارت أن يكون الزواج بهذا الشكل؟ لِمَ لَم تنتظر ظروفاً أفضل لا تقتضى هجراً وفراقاً؟…
فقد كنا فى أمس الحاجة إليها”.

ظللت أستمع للابنة باهتمام شديد لأعرف لما انتهى الحال بأمها إلى هنا، فعلمت أن أمها عادت فعلا ولكن منذ عام واحد فقط، عادت شاحبة الوجه، هزيلة الجسم، متلهفة على رؤيتها وهى كبيرة. وما إن عاتبتها البنت على رحيلها حتى وأجهشت بالبكاء والسب والطعن فى الزوج الأحمق الذى بات طليقها وعلى تعذيبه لها طيلة هذه السنوات ومرضها الجسدى الذى أنهك ما تبقى منها.

استكملت الابنة حديثها قائلة: ” كم كانت أنانية! رضيت بمعاناة جدتى وضربت باحتياجى لها عرض الحائط واختارت السعى وراء المال والحياة المرفهة، فجاءت عدالة السماء فى معاناتها لاحقاً. كم مرت علىّ ليالٍ صعبة كنت أحتاج حينها فقط لسماع صوتها واستشعار وجودها ولمسة يدها وهى ترْبت على كتفى، وكم من خطأ فادح ارتكبته لافتقاد الإرشاد والتوجيه والنصح، وكم ساعة مرت كنت أتمنى إيجاد مأوى حنوناً أجنح إليه”.

لم يكتف زوجها الأحمق بتعذيبها بأخلاقه السيئة وإهماله وفساد ضميره بل وصل الأمر إلى تهديدها بالتشريد أو القتل إن فكرت أن تفضحه بما لديها من أدلة على فساد عميق فى شركاته ومؤسساته. وبالفعل كان، فبعد وصولها هنا أرسلت الوثائق الدالة على فساده إلى المعنى لهم بالأمر فجاءها الرد السريع منه بتلفيق تهمة سرقة أمواله.

لم أدر بالضبط أأرسلت ورق إدانته انتقاماً أم محاولة أخيرة منها لعمل شريف صادق؟ على أية حال فليرحمها الله.

جاءت الممرضة  من الغرفة تخبر الابنة على ضرورة التوجه لإدارة المشفى لإنهاء إجراءات خاصة بوفاة والدتها، فشكرتها على صبرها ووقتها معى وودعتها على أمل لقاء آخر فى وقت وظروف أفضل، وانصرفت.

خرجت من  الغرفة ومن المشفى  وخرجت معى تساؤلات لا حصر لها تجول فى رأسى.

ما هى الفكرة التى كانت مسيطرة على هذه الأم لتدفعها إلى قرار الرحيل هذا؟ وما هو الميزان الذى احتكمت إليه لتزن به المنافع والأضرار جراء هذا القرار؟ أشك أنها كانت تحتكم لميزان أصلاً!

فلنقل أن العقل حينها لم يكن حاضراً وسط الأحلام الوردية بالحياة المليئة بالحب والسفر والخادمات والملابس المطرزة بالذهب والفضة، فأين كانت عاطفتها وغريزتها الأمومية؟

هل سنوات قليلة من الفقر تُجرد الإنسان من شعوره وتوهن عقله وتحوله إلى كائن يبحث عن اللذة العاجلة فقط؟

لو فكرت قليلاً قبل فعلتها لما كان مصيرها بهذا الشكل، ولما عانت هى وابنتها والجدة المريضة كل هذه المعاناة، ولما عانى المجتمع من فقدان روح إنسانية بريئة كان يعج بداخلها الحياة والنشاط ثم أخذت فى الانطفاء شيئاً فشيئاً حتى غمرها الحزن والكآبة.

ماذا وجدت فى مسعاها نحو المال فى مقابل ممارسة دورها كأم وراعية ومسؤولة عن بناء إنسان؟

ماذا لو كانت رؤيتها للحياة أكثر نضجاً؟

وكم عدد ضحايا الرؤى الخاطئة والتفكير المشوش والفكر الواهن؟

ماذا لو فهم الإنسان منا البدائل قبل تفضيل أحدها؟ ماذا لو أمهل عقله فرصة للفهم قبل الحركة؟

أُغلِقت القضية نعم ولكن لم تُغلق القضية الحقيقية التى تُتَهم فيها تلك المرأة البائسة وكل من سار على نهجها وغيّب عقله.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة