التيار الإصلاحى هو ضمير المجتمع – هل هو ضروري ؟ وما هي تحدياته ؟
أوطاننا تخلت عنا، لم نعد جنوداً، نحن الآن المقاومة
“حكمة مجهولة المصدر”
خارج الصندوق!
—————-
يقول الحكماء أن الاجتماع الإنسانى ضرورى، يعبرون عن هذا بقولهم أن الإنسان مدنى بطبعه وأن الاجتماع متسق مع الطبيعة الإنسانية.”ابن خلدون”
هذا الأمر يمكن للإنسان أن يفهمه بالفطرة، إلا أننا ونحن على أعتاب مرحلة حرجة من التاريخ الإنسانى نجد أن الكثيرين قد كفروا بتلك الطبيعة الإنسانية فنسمع كثيراً عن نبذ الاجتماع والبراء من الأوطان والدعوة إلى التخلى عن محاولات إصلاح العالم والصلاة لإله النيازك أن يعجل بالكارثة الطبيعية التى من شأنها أن تريحنا من العذاب، وهذا الأمر لاحظه العديد من المتخصصين فى علم الاجتماع وعلم النفس ورجحوا أن الأسباب التى تقف وراء تلك الآراء تتمثل فى تدنى مستوى المعيشة الذى يعود بالتبعية إلى أسباب سياسية واجتماعية وفى النهاية إلى النظريات الفكرية التى تدار بها الأوطان.
كشفت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات -وهى منظمة مستقلة غير حكومية- فى تقرير عن تزايد حالات الانتحار فى مصر خلال السنوات الخمس الأخيرة، واللافت أن فئة الشباب ما بين 18 و35 عاما احتلت النصيب الأكبر من هذا الرقم، إذ بلغت 83 حالة بنسبة تقترب من 53 فى المئة.
بل إنك لن تحتاج إلى إحصائيات أو أقوال المتخصصين، يكفى فقط أن تدخل إلى مواقع التواصل الاجتماعى أو تجلس على أى مقهى متوسط لتفهم أن هناك شيئاً خطيراً حل بنفسية هذا المجتمع.
أن الظلمات أحاطت بالناس ومع الوقت استسلم الكثير منهم إلى ذلك وتعاملوا مع الأمر على أنه “وضع طبيعى” وقد وصلت درجة خطورة الأمر إلى أن البعض كان يصف من لا يزال يؤمن بأن هناك أمل فى الإنسانية وأن الخير أمر أصيل فى البشر وأن العارض هو الشر والجهل أنهم أهل الخيال والأحلام ومواطنين فى اللا لا لاند!
تيار يائس وأخر إصلاحي
نحن أمام اتجاهين، الأولى عبارة تيار يائس من الواقع ولا يرى خيراً من ورائه وليس لديه أى فكرة عن كيفية الخروج من الأزمة بل بعضهم لا يستطيع أن يشخص الأزمة أصلاً ويضع يده على المشكلة التى تسببت فى الأزمة، وبين تيار متفائل حذر يرى الواقع بشكل مستنير, تيار فهم أن الإصلاح هو الطريق الوحيد للخروج من الأزمة، فهم أن الناس أعداء ما تجهل وأن الجهل متفشٍ فى المجتمع لذلك الناس تتعامل بعدوانية مع بعضها البعض، فالسبيل لنشر السلام بين الناس هو نشر المعارف ورفع حالة الجهل فى المجتمع، فالعلم نور كما هو مشهور.
فى الحقيقة التيار الإصلاحى وجوده ضرورى جداً فى أى مجتمع، ضرورى وجود فكر يحمله أشخاص مؤمنون به، فكر عقلانى يخرج المجتمع من الظلمات للنور، فحركة التاريخ نفسها تعتمد على وجود هذا التيار والذى دوماً يتمثل فى المقاومة التى ترفض الطغيان والظلم وتنحاز للمستضعفين،التيار الإصلاحى هو ضمير المجتمع.
إخوان الصفا
نذكر على سبيل المثال حركة إخوان الصفا التى ظهرت فى العصر الرابع الهجرى-عصر النهضة الإسلامى- والتى عاصرت الدولة العباسية كانت تهدف إلى إقامة مجتمع فاضل-أطلقوا عليها دولة الخير- لتحل محل الدولة العباسية “دولة الشر” التى تناهت فى فسادها وكان تصورهم لدولة للخير مطابقاً بشكل كبير لرؤية أفلاطون والفارابى للمدينة الفاضلة، كانت وسيلة إخوان الصفا هى التعليم والتهذيب فقط وإعداد الشباب لتلك الدولة الروحانية عقلاً وجسداً، حتى إنهم كتبوا فى رسائلهم عن أهمية المعلم فقالوا أن الأب والأم ولدوا الإنسان بالجسد أما المعلم فهو يولده بالروح ولابد للأستاذ أن يرشد أبناءه إلى السبيل ويهذبهم بالعلوم والمعارف…
كما أن ابن خلدون ذكر فى مقدمته أن مدن كبغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة كثر عمرانها واستوت فيها الحضارة وبالتالى زخرت فيها بحار العلوم، وكان يقول أن العلم والتعليم إنما يكون بالقاهرة من بلاد مصر لأن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف السنين.
فهاهم إخوان الصفا يبنون مدينتهم بالعلم والمعرفة، وابن خلدون يمدح مصر وحضارتها وأنها موطن الثقافة والفنون-حضارة ٧٠٠٠ سنة التى يسخر منها الجهلاء- وبالجمع بين الرأيين نفهم أنه لا عمران وحضارة بدون تيار يصلح وينشر الثقافة والمعرفة.
يقول تشرشل “الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا فى تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم”
تطرف من نوع آخر!
——————–
حزب الكنبة
فى وسط التيارين السابقين يظهر تيار مشهور باسم تيار الاستقرار، وهو تيار المواطنين الذين يهابون التغيير المجتمعى, يبلغ التطرف ببعضهم أنهم يتصورون امتلاك صكوك للوطنية يمنحوها لأشباههم من محبى الواقع الحالى ومؤيدى السُلطة، ويملكون صكوك العمالة والخيانة لمن هم دون ذلك، هم معظم الأحوال يرون دعاة التغيير والإصلاح عملاء وخونة لديهم خطط تهدد الاستقرار وتعكر المزاج العام،
تلك الجماعات تكون غالباً من كبار السن والعامة الذين ألفوا الواقع ومرارته وتعايشوا معه، ربما يكونون قد ركبوا تيار اليأس فى يوم من الأيام لكنهم استسلموا وتعايشوا وكوَّنوا تياراً ثالثاً يقبل الواقع ويحافظ عليه، فالطبيعى أن ترفض هذه الفئة التغيير بعدما ترسخت فى نفوسهم طباع مختلفة ومغايرة لعشرات السنين.
الشواهد التاريخية تقول بوجود هذا التيار كما تؤكد أنه يعوق حركة التغيير بشكل كبير ويحاربها بشراسة كما حدث فى دول المنطقة وقت الربيع العربى، وأيضاً تلك الفئة نجد بها فرعاً آخر لكنه سلبى يسمى بالأغلبية الصامتة أو “حزب الكنبة” وهى فئة تعزف عن المشاركة فى أى حدث سياسى أو انتخابى وهى ظاهرة عالمية فى الحقيقة فعلى سبيل المثال ذكرت صحيفة يو إس إيه توداى الأمريكية عزوف نحو 90 مليون ناخب أمريكى (من إجمالى 206 مليون أمريكى لهم حق التصويت) عن المشاركة في الانتخابات التى جرت فى نوفمبر 2012 والتى انتخب فيها باراك أوباما لولاية ثانية
الوطنية والعمالة
أن منظور الوطنية والعمالة قد يبدوان نسبيين فى هذه الحالة، فمثلاً أصحاب فكر الاستقرار يرون أنهم هم الوطنيون وأن أصحاب التغيير والفِكر الإصلاحى ليسوا كذلك لأنهم يريدون هدم الوطن، والعكس صحيح أن أصحاب التيار الإصلاحى يرون أنهم يريدون مصلحة الوطن والعدالة وأن أصحاب تيار الاستقرار يعيقون تقدم الوطن.
نقطه أخرى مهمة وهى مفهوم الاستقرار أصلا, هذا المفهوم فى الحقيقة ضد الطبيعة سواء طبيعة المادة أو الإنسان, فلا شىء فى حقيقته ثابت أو مستقر, كل شىء يبدأ من نقطة أو حالة ويتطور إلى حالة أخرى سواء كانت أفضل فيتسامى أو أسوء فيتسافل, من حيثية أخرى حتى إذا نجحنا فى إرساء مجتمع العدالة والفضيلة فوجود مجتمع كهذا سيمثل تهديداً لمجتمعات أخرى محيطة بنا،
قد يرغب مواطنيها نقل تجربتنا إليهم فيثورون على حكوماتهم ولذلك استباقا لتلك الخطوة ستقوم تلك الحكومات بحصارنا وغزونا وزعزعة أوضاعنا هذا أكيد, فلا يوجد ما يسمى بالاستقرار فى علم الاجتماع أو التاريخ فالحضارات تقوم وتهبط والمجتمعات تتقدم وتتأخر ولولا التدافع لمات كل شىء, بمعنى آخر الاستقرار موت.
التيار الإصلاحى والرأسمالى:
—————————
عائق كبير أيضاً يظهر أمام التيار الإصلاحى يتمثل فى أصحاب المنافع والمستفيدين من بقاء الأوضاع كما هى، هو التيار الرأسمالى المسيطر على الثروات فى المجتمع، هذا التيار يخشى العدالة ويعلم جيداً تبعات سيادة القانون عليه ويفهم تبعات أن ينجح أصحاب التيار الإصلاحى فى تحقيق أهدافهم المتمثلة فى توعية الجماهير وعقلنة المجتمع.
يدعون الوطنية وهم أبعد الناس عنها, ينطبق عليهم قول برنارد شو “الوطنية فضيلة الأشرار”.
الرأسمالية هى نظام توسعى يبحث دائماً عن ميادين جديدة للعمل ومن ثم فإن ظواهر مثل الإمبريالية والاستعمار جميعها يمكن تفسيرها على أنها توسعات ضرورية للمحافظة على النظام الرأسمالى فى المجتمعات المتقدمة.
أى أن الرأسمالية لها علاقه بشكل أو بآخر بالفكر الاستعمارى الذى يأخذ من مجتمعات أقواتها ليصب فى مصلحة مجموعات أخرى يمثلها الاستعمار، وهذا فى الحقيقة تيار عالمى يمثله عندنا أصحاب رؤوس الأموال المحتكرة للاقتصاد، وهذا النظام العالمى أيضاً يهدده وجود تيار عاقل لأن العقل ينادى بالاستقلال.
يرى “أندريه فرانك” وهو عالم اقتصاد ألمانى أن تبعية دول العالم الثالث للقوى الغربية تعوق التنمية فى تلك البلدان.
ونعلم أن التيار الرأسمالى المخلص للثقافات الغربية سيحارب التوجه العقلانى الإصلاحى بكل قوته لأنه يهدد مصالحه فى المجتمع ويهدد الكيانات الاستعمارية فى النظام العالمى.
ختاما: التاريخ يحكم!
——————–
مما سبق نفهم ضرورة وجود التيار الإصلاحى العاقل وأن هذا من لوازم حركة التاريخ ونهضة المجتمع، وأن هذا التيار ستتم ملاحقته ومطاردته من عدة توجهات أخرى مثل اليائسين والخائفين والانتهازيين، وفى الحقيقة هذا قدر ذلك التيار ومصير حملة هذا النور للعالم، فكل المصلحين ذاقوا الأمرين فى رحلاتهم الإصلاحية، فبعضهم جمع بين الأسباب ونجح وبعضهم لم يوفق فى مسعاه، ودور أصحاب التوجه العقلانى العمل على توعية مجتمعاتهم بغض النظر عن النجاح أو الفشل، فهم مُكلفون بأداء الرسالة وليس عليهم إدراك النجاح لأن عملية تغيير المجتمع كزراعة النبات، يزرعه جيل ويقطفه آخر.
نختم بقول رفاعة الطهطاوى “إن منبع السعادة الأولى هو العمل والكد، وأن أعظم حرية فى المملكة المتمدنة هى حرية الفلاحة والتجارة والصناعة، والعدل أساس المجتمع الإنسانى والعمران والتمدن، فهو أصل عمارة الممالك ولا يتم حسن تدبيرها إلا به”
مصادر:
*موسوعة علم الإنسان، المشروع القومى للترجمة، طبعة ١٩٩٨
*فلسفة التربية عند إخوان الصفا، نادية جمال الدين مطبعة نهضة مصر
*مقدمة ابن خلدون، ط دار الفجر
اقرأ أيضاً:
بطل المقاومة الشعبية ضد الإحتلال الفرنسي
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.