مقالات

التاريخ المحذوف

التاريخ محذوف

“في القرن التاسع عشر ظهر في أوروبا رجل اسمه “نابليون بونابرت” محارب عسكري انتصر عسكرياً وقاد فرنسا لفترة ثم انتهى به المطاف في جزيرة معزولة منفياً بعد أن انهزم وخسر معركة فاصلة كانت آخر معاركه مع أعدائه الأوروبيين.

لنابليون مقولة منسوبة إليه هي الأهم في هذا الحديث وهي أن ” التاريخ هو صيغة أحداث الماضي التي قرر الناس الاتفاق عليها” أي مجموعة من الأحداث التي تم تناقلها بين الأجيال سواء صدقت أم تحتمل التشكيك في صحتها.

يختص  دارسو تاريخ الأمم بدراسة تاريخهم بغرض التعلم والاقتداء بهم، فهو ضوء كاشف ينير لنا الطريق الذي نسير عليه لنصل لأهدافنا كمجتمع، فلا يستقيم أي مجتمع لا ينظر للتاريخ كمرجعية من ضمن مرجعياته للتعلم والتدبر.

وهذا عكس ما نشاهده حالياً في واقعنا المعاصر، فلم يعد له قيمة تذكر وأصبح مادة للسخرية ثقيلة الظل ومحل نفور بين الدارسين، أو اقتصرت وظيفته على التفاخر بالأمجاد القديمة فقط بعد أن ضلت الأحفاد طريق أجدادها بالبعد عن قيم ودروس التاريخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فلنتخيل إحدى الرحلات المدرسية لأحد الآثار التاريخية ومدى استفادة هؤلاء الطلاب من مشاهدة هذه المباني الشاهقة أو الآثار أو دور العبادة القديمة التي توثق رحلة أمم عاشت وتركت تأثير في أزمنتها. فهل ستترك هذه الرحلة أي أثر في هذه العقول اليافعة لو لم يفهموا عمق التجربة الفكرية والإنسانية التي تعبر عنها هذه الصخور؟!

كيف يحدث ذلك وقد اقتصر مفهوم دراسة التاريخ على سير القادة والملوك السابقين وغزواتهم فيترسخ في رؤيتهم التاريخية تمجيد المنتصر فقط. وينتج عن هذا الاعتقاد بأن قوة وعظمة الأقطار ونضوجها التاريخي ينبع من قوتها العسكرية وانتصارات جيوشها وتوسع رقعتها الجغرافية على حساب جيرانها. ويسجل التاريخ بفخر أعظم القادة وأكثرهم انتصاراً في المعارك كقدوة للتفاخر وتنسب لهذا القائد منفرداً كل الانتصارات.

تاريخ من المعارك والأسلحة والدبابات تتشابه أحداثه وتختلط على دارسيها وقد تُختلق أيضاً وتتناقل بين الأجيال دون وعي بعد أن أوهمت المجتمع أن صفحات الشرف في التاريخ هي حكر للغزاة والفاتحين فقط. ويمكننا بتتبع بسيط لسجلات التاريخ أن نرى ذلك بوضوح، فالمنتصر مهما كانت خلفيته الفكرية وقيمته الحضارية هو القدوة والمثل الأعلى، بينما المهزوم فإننا نقبل بهزيمته كدليل كافٍ على فشله بدون النظر لأثره العلمي أو قيمه الحضارية.

ولنأخذ مجتمع “الأتروسكان”، أو حضارات “الأمريكتان” القديمة كمثال والتي إما أننا لم نسمع عنها أو أننا نتكلم عنها خجلا فقط لأن لها حيزاً تاريخياً يجب ذكره لكننا لا ننظر لهم بنفس الشغف والفضول الذي ينتابنا عندما ننظر لتاريخ منازعيهم ومنافسيهم كالرومان أو الأسبان والبرتغال.

إن في تاريخ الأمم  عِبر وسُنن أكبر من كونها تتبع لحركة شخصيات تاريخية، فأهم العبر هي الاستبدال والتغير باستمرار لذلك ربما حذف المنتصر الكثير مما كان يستحق الذكر عن خصومه. فلم نعد نجد إلا القليل مما يمكن قوله أو ذكره عن الجاليين على سبيل المثال وبطلهم “فرسنجتوركس” الذي وحد تلك القبائل التي كانت تسكن فرنسا حاليا وقاد حملات المقاومة الشرسة والتي أرهقت جنود الرومان أعواماً كثيرة وأرهقت قائدهم “يوليوس قيصر”. الأمر الذي دعاه لتدمير الكثير من قراهم وآثارهم وأخذ قائدهم الهمام بعد أن انتصر عليه أسيرا لروما ليستعرضه أمام العامة في الشوارع. ثم أمر بحبسه بطريقة مهينة مقيدا في حفرة لكي تراه الناس ذهابا وإيابا إلى أن مات.

لن يتذكر تاريخ “فرسنجتوريكس” المهزوم بالمعايير المادية للتاريخ، التي تضع الاعتبار فقط للمنتصرين أمثال يوليوس قيصر. لكن بالتأكيد لن ينسى تاريخ القيم والتضحية والبسالة هذا القائد الشجاع الذي اختار أن يموت من أجل قضية يؤمن بها. فكان الموت في سبيل قضية مستقبل الأمة الجالية أفضل عنده من بعض السطور ونقاط الحبر على بعض الصفحات الصفراء.

ولا نتعجب اليوم حينما نرى الشعب الفرنسي يذكر ذلك القائد “المهزوم” كمثال للحرية والمقاومة الفرنسية ويشيد له النصب التذكارية. وكذلك لم يسلط التاريخ الضوء على “هانيبال” الذي كان على وشك أن يسيطر على “روما” في أوج عظمة الإمبراطورية الرومانية بعدما ألحق بقاداتها العسكريين الهزائم. وهو المحارب القادم من شمال أفريقيا مدافعاً عن شرف بلاده مما دفع روما بعد هزيمته بتدمير مدينته قرطاجه وحذف أي مظهر مادي يدل على وجوده، وبالرغم من ذلك فلم يطويه النسيان كونه قائد شجاع. كل هذه أمثلة على نوع من أنواع التاريخ وقصصه التي تغير في وعي المجتمعات وأفكاره، أمثلة يخالف المعايير المادية التي ذكرناها لتاريخ “المنتصر فقط”.

 

وبذكر هذه الأمثلة يتضح أيضاً دور التاريخ عموما في كونه يساهم في الحفاظ على الهوية ويجعلها محفزاً للبقاء والاستمرار حتى في أصعب الظروف. فخلال الحرب العالمية الثانية وفي خضم المعارك كانت هناك حملات تنادي بالمحافظة على الأعمال الفنية والمعمارية الأثرية التي تستمد عظمتها من عظم هوية الأمة. ولنأخذ فرنسا على سبيل المثال التي اتخذت كامل الاحتياطات للحفاظ على متحف اللوفر وحفظ مقتنياته في أماكن آمنة بعيدة عن الحروب، وبعد الحرب سارعت معظم الدول الأوربية لترميم مبانيها ومتاحفها التاريخية القديمة -والتي يعود تاريخ بنائها لعصور القرون الوسطى- التي تضررت لعلمهم بأهمية هذه المباني تاريخياً.

الآن وللأسف الشديد ومع انتشار مفهوم الربح المادي والنفعية فمن الممكن أن يهدم مبنى أثري قديم أو يباع لمن يملك من المال أكثر. هي جريمة نكراء تدمر تراثنا القومي وتذيب ذكريات الماضي. يكفي فقط لنا أن نسير في شوارع القاهرة القديمة لنشاهد المباني الأثرية الرائعة والمساجد والمدارس القديمة التي أسست في عهد الفاطميين والمماليك. تلك المباني التي تركت للإهمال التام على الرغم من براعة تصميمها وروعة نقوشها وزينتها. مأساة تدمع لها عين كل من يرق قلبه لجمال تلك التحف المعمارية الخلابة.

وللخروج من هذا المأزق ينبغي علينا الاهتمام بدراسة التاريخ وكشف أحداثه بتتبع حركة الأفكار التي نشأت في المجتمعات المختلفة وكشف هويتها من إنتاج مفكريها، كمحاولة لدراسة أسباب الأحداث التاريخية من أساسها والبحث عن حل جذري يعيد للتاريخ مكانته الحقيقية كفلسفة تستحق الدراسة. فالمؤمن بقيمة التاريخ سيدرك عظم وأهمية أي حدث تاريخي يشكل وجدان هويته من آثار الأمم السابقة ويكون معياره قيمة هذه الآثار والعلامات لذاتها وليس بقيمة نفعها المادي.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد صالح

عضو فريق مشروعنا فرع القاهرة