مقالات

الخناقون.. حين يُصبح القتل عقيدة!

الخناقون Thuggee فرقة هندية من محترفي القتل، تخصصت في قطع الطرق وخنق وسلب المسافرين، ومنها جاءت كلمة Thug في الإنجليزية، بمعنى «سفاح». ترجع نشأة الفرقة إلى القرن السادس عشر، وأغلب أفرادها هندوس من أتباع ما تعرف بالربة «كالي» Kali، ربة الموت والزمان التي يصورونها في معابدهم على هيئة امرأة داكنة البشرة (سوداء أو زرقاء) ذات أربعة أذرع،

عارية بشكل كلي أو جزئي، متوحشة، بارزة الأنياب، طويلة الشعر، ترتدي أجمل وأغلى المجوهرات، تطوق رقبتها قلادة كبيرة من الرؤوس البشرية المقطوعة، تمسك بإحدى يديها رأسا بترته باليد المقابلة التي تحمل سيفا مخضبا بالدماء، بينما يقطر الدم من الرأس في وعاء تحمله باليد الثالثة، أما اليد الرابعة فقد بسطتها تعبيرا عن تفجر الأنوثة بالقوة، وتحت قدميها يرقد زوجها المجسد للهيمنة الذكورية!

أسطورة الخناقون

كان الخناقون يمارسون القتل تقربا لمعبودتهم، إذ تروي الأسطورة التي كانوا يعتقدون بها أن ثمة وحشا عملاقا ظهر في بداية الزمان (يعرف باسم «راكتابيجا» Raktabija)، كان يلتهم البشر بسرعة ونهم حتى كاد أن يقضي على الجنس البشري برمته دون أن يتمكن أحد من القضاء عليه، فقد كانت لديه القدرة على تحويل كل قطرة دم تسقط من جسده إلى وحش جديد.

وللقضاء عليه خلقت «كالي» رَجُلين وأعطتهما خِرقة تسمى «الرمال»، ثم أمرتهما أن يقتلا الوحش خنقا كي لا يتمكن من إعادة خلق نفسه، وقد أنجزا المهمة بنجاح فقتلا الوحش دون إراقة قطرة دم واحدة، وكافأتهما «كالي» على صنيعهما بأن سمحت لهما بالاحتفاظ بالخرقة، وأمرتهما أن يتوارثاها في ذريتهما ويستعملاها في قتل كل شخص لا ينتمي إلى طائفتهما!

دوافع جرائم الخناقين

لم تكن جرائم الخناقين تقوم بالطبع على الدافع الديني فقط، فسرقة أموال المسافرين ونهب ممتلكاتهم كانت هدفا رئيسا لتلك الجرائم، ولهذا السبب ضمت الطائفة أتباعا من غير الهندوس. وتشير موسوعة جينيس للأرقام القياسية إلى أن عبادة القتل التي مارستها تلك الفرقة أسفرت عن مقتل ما يصل إلى مليونين من البشر، بينما يشير المؤرخ البريطاني «مايك داش» Mike Dash إلى أنهم قتلوا حوالي 50.000 شخص خلال 150 عاما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما أستاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا «ديفيد تشارلز رابوبورت» David Charles Rapoport فيقدر عدد القتلى على أيدي الخناقين بما يقرب من نصف مليون شخص، الأمر الذي جعل منهم الفرقة الأكثر إرهابا في التاريخ!

اتسمت ممارسات وتحركات الخناقين بالحيطة والحذر الشديدين، وكذلك بالسرية التامة، لذا لم تكن أغلب جرائمهم تكتشف إلا بعد مرور وقت طويل على اقترافها، وقد لا تكتشف أبدا، وذلك نظرا لبراعة الخناقين في إخفاء معالم الجريمة.

وحتى في حال اكتشافها والقبض على البعض منهم، فمن النادر جدا أن يقر أحدهم بجرمه، ومن الصعوبة بمكان حمله على الوشاية برفاقه حتى لو تعرض لأقسى وسائل التعذيب، وهكذا ظل الخناقون مصدر خوف وقلق دائم للمسافرين حتى تمكنت القوات البريطانية المحتلة للهند من القضاء عليهم تماما سنة 1870.

عقيدتهم الباقية

اندثرت فرقة الخناقين، لكن عقيدتهم في استلاب الحياة لم ولن تندثر، بل كانت وما زالت بمثابة معتقد سياسي تترجمه الدول والجماعات والحكومات إلى ممارسات ترتدي ثوبا تبريريا قشيبا، ففي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تقضي على فرقة الخناقين بالهند، كانت تقود الدول الغربية في عملية خنق ممنهجة لشعوب العالم الثالث، باستعمارها، نهب ثرواتها، طمس هويتها، وتشويه لغتها!

ولم يتورع الغزاة الأوربيون لأمريكا عن ارتكاب أبشع جرائم الفتك بالملايين من الهنود الحمر خلال عقود قليلة! إلى غير ذلك من جرائم الإبادة الجماعية التي يحفل بها التاريخ!

وأما على مستوى الجماعات، فما زالت جرائم القتل على خلفية الصراعات السياسية ذات الطابع الديني تفتك بكثرة من الشعوب والأفراد، بغض النظر عن الشأو الحضاري الذي بلغته بعض الأمم!

وأما على المستوى الحكومي –لاسيما في الأنظمة الدكتاتورية– فأمثلة الخناقين لا حصر لها، فهم أولئك الذين يخنقون حاضر رعاياهم بالغلاء الفاحش والضرائب الباهظة ودفعهم إلى التهافت على مقومات الحياة الأساسية، ويخنقون ماضيهم بالطعن في ثوابت هويتهم التاريخية والدينية، ويخنقون مستقبلهم ببرامج تعليمية مهترئة وعابثة، يخنقون الوعي بإعلام فاسد، ويخنقون العدالة بتفاوت لا منطقي في الأجور وقضاء جائر، ويخنقون الحرية بالبطش بدعاتها، ويخنقون المجتمع ككل بالفساد والإهمال المتعمد!

الجريمة في ثوبها الجديد

القتل هو القتل أيا كانت وسائله، والخنق استلاب لحق الحياة أيا كانت أدواته، كل ما في الأمر أن المسافة بين القتلة وضحاياهم قد تباعدت، ولم تعد أيديهم ملوثة بدماء الضحايا، أو بالضغط المباشر على أعناقهم بخروق مقدسة أو مدنسة، ولم تعد لغة الجريمة قاطعة وفاضحة، إنما غدت لغة عصرية فضفاضة تحمل توصيفا مقبولا للجريمة.

وهكذا، فمثيرو الحروب ليسوا قتلة، بل قادة يتشحون برايات البطولة، ودعاة الفتن الدينية ليسوا قتلة، بل أرباب دعوة يحملون لواء الذود عن العقيدة، والمسؤولون الحكوميون المهملون والعاجزون والمقصرون والفاسدون ليسوا قتلة، بل رجال دولة يتقدمون الصفوف ويضحون من أجل الوطن.. إلخ!

الخناقون توالدوا.. تكاثروا.. تطوروا.. وسيظل القتل باسم السماء تارة، وباسم الوطن تارة ثانية، وباسم الإنسانية تارة ثالثة علامة على أن ثمة بشرا يستعمرون الأرض، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

القتل ما بين الجرم واللذة

ترويض العقول وتبرير العنف بين المتبوع والتابع!

من عصورنا المظلمة إلى سنة عشرة آلاف!

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية