إصداراتمقالات

Dawn of the Planet of the Apes

فيلم بزوغ كوكب القردة يحملك إلى عالم كليلة ودمنة تلك المجموعة القصصية التي ألفها ابن المقفع واضعًا فيها أفكاره السياسية والأخلاقية بكل وضوح على لسان حيوانات الغابة في زمن الصمت الذي سادت فيه لغة التورية للتعبير عن الآراء.

أو قد يحملك إلى تجربة جورج أورويل في روايته مزرعة الحيوان، ذلك النوع من الكتابات الرمزية تجذب القارىء وتشده إلى سبر المعنى والولوج إلى عمق المراد الذي يصبو إليه الكاتب.

هذه المرة نقف أمام تجربة فريدة لسينما هوليود حين أضفت على معاني الحروف جمالأً آخر في عصر الصورة في فيلم بزوغ كوكب القرود (Dawn of the Planet of the Apes) للمؤلف مارك بوماك وريك جافا هو فيلم خيال علمي أمريكي من إخراج مات ريفز.

لن نتناول الفيلم من حيث جودة ومعايير الإخراج ونسبة الإيرادات، بل سنسلط الضوء على أبرز النقاط الفكرية التي أثارها المؤلف، فسينما بالعقل نبدأ تُعنى بالإنتقال بالمشاهد من مستوى البصر إلى البصيرة، وخاصةً أننا أمام فيلم يوجه رسائل لبني الإنسان ذات معنى فلسفي عميق بقالب خيالي على لسان القرود.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

طبعًا من تابع سلسلة أفلام كوكب القردة يعرف أنّ الجزء الأول انتهى إلى أنّ العلماء أجروا تجارب على مجموعة قرود معدَّلة وراثيًا تحلت بقدرٍ لائق من الذكاء في هذا الجزء يتابع المؤلف تطوّر القردة وصولًا لانعزالهم في الغابة وتكوينهم مجتمعًا خاصًا بهم يُناظر المجتمع البشري الذي اجبره فيروس على الانزواء، ويحاولون بشتى الطرق إيجاد منفذٍ أو أي وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي لإنقاذهم مما هم فيه قبل أن تنفذ مقدراتهم التي يعتاشون منها، وتشاء الأقدار اكتشافهم تلك الغابة التي يقطن فيها مجموعة القرود ويغدون بحاجة للتواصل معهم لأخذ مصدر من مصادر الطاقة، وهو الشلال الذي يقع ضمن نفوذ منطقة القردة في الغابة، فيضطرون لعمل هدنة أو معاهدة مع القردة للاستفادة من الشلال كمصدر لتوليد الطاقة الكهربائية يساعدهم في شبكة التواصل مع العالم الخارجي.

في مطلع الفيلم تجد نفسك منبهرًا أمام مجتمع للقرود اتخذت من الغابة وطنًا لها يسوده مجموعة من الأحكام والقوانين، الكاتب من أول حوار في الفيلم بين الشخصية الرئيسية -القرد القائد سيزر والقرد الحكيم – يوجّه صفعة أخلاقية للإنسانية وصدمة حين يتفاخر القائد بانجازاته في بناء مجتمعه وينتقد المجتمع البشري بأنهم يقتلون بعضهم البعض، فيقول ’’ صحيح نحن القردة قد نتشاجر لكن القرد لا يقتل القرد !!’’.

لذا نجد أنّ القيم الأخلاقية من أبرز الرسائل العميقة التي قدمها الفيلم من خلال نموذج كوكب القردة الذي خط فيه المؤلف تصوره للمجتمع والعلاقات التي تسود بين أفراده.

سنجد أنه قال الكثير من هذه القيم في شخصية القرد سيزر الذي جسد شخصية القائد الحكيم المتعقل المتأني الذي يتحكم في ضبط قواه الغضبية والشهوية ويبذل الكثير من الجهد المتفاني المخلص لإيصال شعبه إلى بر الأمان .

لو تعمقّنا أكثر في الفيلم وتغلغلنا في قراءة ما بين السطور سنجد أنّ المؤلف لم يكن يؤيد النظام الديمقراطي في الحكم وفي ذات الوقت لم يؤمن بفردية قرار الحاكم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بل كان هناك نظام وسيط يتعامل مع الديمقراطية كإجراء وليست كوسيلة، فبعد أن يستمع القائد سيزر إلى أصوات جموع الشعب يعتكف إلى سماع الحكماء من أعوانه ومساعديه… يفكر، يتأنى، يشاور، بعدها يأخذ القرار.

لم يكن يستند إلى رغبات شعبه بشكل مطلق خاصةً أنّ القطيع كانت تحركه غرائزه وشهواته، وقد تأثر بتحريض القرد “كوبا” الذي جسد الشخصية الغضبية الشهوية الحاقدة على جرائم البشر حين كانوا يتعاملون معه كفأر تجارب جعلوا وجهه كمسخ، مما خلف أثرا عميقا في نفسه يحفزه للانتقام من البشر في أيّ فرصة سنحت له بذلك وفي أي احتكاك أو معاملة معهم.

هنا علينا التوقف قليلاً أمام نقطة هامة على هامش آخر يوجهها الفيلم للمنهج التجريبي ومن يؤمن به ويعمل به بإطلاقه دون أي ضوابط أخلاقية وما يخلفه البشر من أزمات بيئية تصيب الكون أو فصيلا من الكائنات الحية أو ربما حتى الإنسان، فالكاتب يغمز بشكل خفي ويعيد إثارة مبحث هام من أهم القضايا الفلسفية المعاصرة وهي علاقة العلم بالأخلاق، وهل للتجربة حدود وضوابط أخلاقية أم لا؟!

لو عدنا إلى سياق الأفكار التي أثارها الكاتب نجده شدد على أهمية الجماعة في تحقيق الفرد لمطالبه الخاصة ومطالب الجماعة في آن فلا أحد يستطيع أن يعيش بمعزل عن الجماعة، حتى لو كان قائدا حكيم شجاع كسيزر الذي وجهت إليه ضربة قاضية من القرد -كوبا- ولا ندري لمَ انتقى الكاتب اسم كوبا ليمثل القوة الغضبية الطائشة؟ هل هو نوع من الغمز الخفي؟ أو رسالة للاوعي وانطباع اسم كوبا بشكل سلبي عند المشاهد؟ فكلنا نعلم الحرب الحارة والباردة بين أمريكا وكوبا وفي النهاية كل فيلم ابن بيئته أيًّا كان سبب الانتقاء. إن تجسيد الكاتب لشخصية كوبا بمساوئها ووضعها في مجتمع كوكب القردة الذي قدمه بدايةً على أنه كوكب يحتذى به كنموذج للتعايش السلمي الإيجابي بين أفراده ليخبرنا أنه بما أننا على كوكب الأرض أيًا كنت إنسانًا أو قردًا إن لم تلتزم بالوصايا العشر وتتحكم في شهواتك وغرائزك فالشر والصراع سيسطرعليك ويهيمن على علاقتك بالآخرين وحينها سيحل الظلم عليك وعلى المجتمع لما ستحدثه من إضطراب وخلل.

فكوبا حين تملكه الحقد وطلب الثأر من بني البشر ورفض إقامة علاقة تعاون وتبادل خبرات ومساعدتهم في توليد طاقة كهربائية من الشلال، بل حين سيطرت على مشاعره الغيرة والغضب من القائد “سيزر” بعد اختلافهما في وجهات النظر، كل تلك الرغبة الجامحة السلبية أومشاعر الكراهية والحقد التي سيطرت على كوبا أودت به إلى نهايته والضرر لقبيلة القرود بمجموعهم حين انقادوا لتحريضه متغافلين عن صوت العقل المتمثل في شخص القائد سيزر الذي عجز عن تقديم العون لشعبه دون محاولته لحث الوعي من جديد لدى أعوانه حتى يمدوه بالمساعدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد صراع دموي وفتنة افتعلها كوبا بين القردة والبشر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من ضمن القضايا المثارة في الفيلم قضية السلم والحرب، لم يكن الكاتب يؤيد قرار الحرب من خلال رأي القائد الحكيم سيزر الذي رأى أنه حينما تحل الحرب ستدمر الوطن والمستقبل، لكنه في ذات الوقت كان مع مبدأ فرض الهيبة كنظير لا يستهان به أمام الطرف الآخر على مبدأ إن عدتم عدنا، وتبني خيار الحرب واستخدام القوة والانتقال من التلويح بها إلى استخدامها إن اضطر إليها كما حدث في نهاية الفيلم في النزاع الذي شب بين القرود والبشر.

أخيرًا من يشاهد هذا الفيلم بعمق بما يحوي من أفكار- حاولنا قدر المستطاع صياغتها وكما نعرف صعوبة ومشقة تطويق عمل أدبي واستخلاص العبر والفكر- يجد أنّه بمثابة صورة بصرية تستفز قواك العقلية التي بداخلك كإنسان تجعلك تتأمل قدراتك الحقيقة؛ عقلك الذي يسيطر على الكون ويسخّر الكائنات وكل ما حولك في خدمة رغابتك خيرًا كانت أم شرًا، لأنك تدرك في هذا القالب الخيالي أفكارا معبأة بالكثير من القيم تدرك أنك وحدك من يملك العقل بين الكائنات على عاتقك تقع مسؤولية الإعمار، تدرك أنك حتى تكون إنساناً عليك أن تتحلى بالكثير من القيم حتى لا تغدو أقل من قرد .

مقالات ذات صلة