المصريون وسيدنا يوسف.. قصة الوعد القريب
المؤكد أن بين تعلق المصريين بالكريم ابن الكريم سيدنا يوسف عليه السلام، وبين وجوده في مصر وحياته وقيامه بكل مهامه التي قدرها الله له على أرضها علاقة ما، وهذا طبيعي.
خاصة أن القرآن أورد هذه الحياة وهذه المهام في سورة مستقلة خاصة بها وبأحداثها، وُصفت في أولها بأنها من أحسن القصص، وفي آخرها بأنها عبرة للبصائر، وفي سياقها بأنها تحوي آيات للسائلين.
حين يأتي حدث تاريخي يحوي بين أحداثه ما يتعلق بالدين والسياسة والاقتصاد، وتمتلئ أيامه ولياليه بالحب والحزن والوفاء والحقيقة والإحسان والفهم والأمل والنبل والكرم والصدق والصفح، وأيضا الغيرة والحسد والخداع والتضليل والمؤامرة، وأستاذهم الكبير الوهم والسراب اللذيذ، الذي يحيط بكل هذه الضلالات.
قصته “عبرة” وحياته “آية”
حين يأتي حدث تاريخي بكل هذه التنوعات التي هي عين الحياة، دين ودنيا وناس، فلا بد أن يكون له ما يكون في الوعي والذاكرة والذكرى والحب.
لكن هذا الشعور الفردي الخاص الخالص الصادق الصافي المفعم بالحب والشكر والعبودية للرحمن، يمثل عند كثيرين ما يفيض فرحًا وروحًا وقربًا ودمعًا، ينطق بما لا تسعه حروف كل الأبجديات ولا كلمات كل العبارات.
أتصور أن من أعظم وأقوى ما تقدمه سيرة هذا النبي الكريم على هذه الأرض الطيبة، التي قضى الله بأن تكون قصته “عبرة” وحياته “آية”.
كون هذه الآية وتلك العبرة ما هي إلا الحياة كلها، حياتنا نفسها، وسنجد ذلك واضحًا في تلك الومضات المتتالية الفارقة بين ما كان من جهود البشر وتراب الأرض، وبين ما هو من عطاءات الوحي وقبس السماء.
أنت هنا مع القرآن، ليست هناك غوامض ولا خفايا ولا أسرار، خبر السماء هو خبر السماء، وخبر الأرض هو خبر الأرض.
هذه “الحالة” حالة إسلامية خالصة، وهي التي أكدها الدين الخاتم للأديان السابقة، تأكيدًا تامًا وحاضرًا ودائمًا بدوام الليل والنهار، وما فيهما من سريان الزمان في أوقات تتبدل وتتغير وتعود لتبدأ وتبدأ لتعود.
صفات يوسف عليه السلام الأخلاقية
الإنسان المسؤول
كيف كان ذلك؟
في الوضوء والصلاة، بكل ما يشير إليه الوضوء من مادة وحس، وبكل ما تشير إليه الصلاة من روح وغيب، كما قال لنا العلامة علي عزت بيجوفيتش (ت/203م).
سيرة كل الرسل لا تخلو من هذا المعنى بشكل أو بآخر، لكن الجديد هنا انتقال هذا المعنى الذي فيه مفتاح اللغز، انتقاله إليَّ وإليك وإليها وإليهم.
إلى الإنسان المخلوق المختار الذي حمل أمانة التفكير والاختيار، المخلوق الذي تمم الله به الوجود كما تقول الدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله (ت/ 1998م).
لقد رأينا سيدنا يوسف (البشر) شخصًا وفردًا عاديًا، ورأيناه حاكمًا وسيدًا مطاعًا، وفي الحالتين كان فارق فاصل دائمًا بين ما يتعلق به إنسانًا مسؤولًا، وبين ما يتعلق به نبيًا مرسلًا.
في لحظة الذروة، لحظة تقدمه لتحمل المسؤولية سنجده يشير إلى تطابق احتياجات تلك المسؤولية، مع ما لديه من قدره تتعلق بالوفاء بتلك الاحتياجات، وإلا ما كان ليتقدم، فيكون بذلك خسارته الكبيرة وخسارة الناس الأكبر من حوله، وفي النهاية فهي شيء معيب فيه منقصة مهينة.
ما بالك إذا كان من يقوم بتلك المهمة رجل يقوم بها بين يدي البشرية كلها، ليعرفهم ما يتحتم عليهم معرفته، عمرانًا وصلاحًا وقيامًا بحقوق الأمانات.
الصديق
سيكون علينا هنا أن نتذكر صفة من أهم وأكثر الصفات التي لازمت سيدنا يوسف وهي “الصدق”، يوسف الصدِّيق كان هو.
اختصاصه بهذا الوصف فيه أبلغ الدلالات على أخص صفة يجب توافرها في الحاكم والسياسي وهي الصدق، وحين دعاه صاحبه الذي كان معه في السجن، ليقوم بما عجز عنه الآخرون، دعاه بهذه الصفة “يوسف أيها الصديق”.
الصاحب الذي أصلًا كان قد عاش معه حياة يومية في أسوأ الأماكن، المليئة بأقسى التفاصيل، وما أسهل الكذب وما أثقل الصدق فيها.
لا يمكن لمن سيكون في مكان مثل الذي دُعي إليه إلا أن يكون صادقًا، وسواء كان مستشارًا مشيرًا، أم حاكمًا نافذًا، فلا مكان إلا للصدق، الصدق، والصدق فقط، لذلك ناداه الصاحب بأوجب صفاته التي هم في حاجة شديدة إليها.
السياسي المتكامل
حقيقة وحقًا، ليس هناك أكثر بشاعة من “الملك الكذاب”، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر”.
قبح التناقض بين الصفة والموصوف واضح، وهو قبح يملأ النفس اشمئزازًا ونفورًا، وأيضًا دهشة وتعجبًا واستخفافًا.
الكذب في السياسة وأمور الحكم والحكومة التي تتعلق بـالصالح العام، اهتم به كثير من المفكرين والباحثين، ولعل أشهرهم كانت المفكرة الألمانية المعروفة حنة أرندت (ت/1975م)، التي اشتغلت كثيرًا على هذا الموضوع، وذلك لارتباط السيطرة على الحكم ببروباجندا الكذب والتزييف والخداع.
قالت في كتابها “الحقيقة والكذب في السياسة” إن الحقيقةَ الأرضُ التي نقف عليها، والسماءُ التي تمتد فوقنا.
السياسة بصفتها المكان الذي يتواصل فيه البشر حول قضاياهم العامة ومصالحهم العامة، لا يمكن أن تقوم على الكذب والتلاعب والتزييف.
تحدثت عن شيء غريب اسمه: “الكذب الواعي”، المتصل بالوقائع أو بحقائق واقعية يُقال فيها للناس كذبًا يوميًا، بوعي وإدراك أن ما يسمعه الناس الآن، ما هو إلا أكاذيب، وأضافت: “والذين يفصلون السياسة عن الصدق ما هم إلا حفنة من المحتالين”.
الحكيم
سنجد أيضًا أن حديث سيدنا يوسف إلى الملك بضرورات المسؤولية الواجبة، كان حديثًا واضحًا، يعلم أن له عند الملك محطة استقبال، ومخاطبة المصالح غير مخاطبة المشاعر، فهو ملك، يحكم لا يلعب، إنه حديث إدارة وحكم وسياسة.
إن سيدنا يوسف هنا يعلم عن نفسه يقينًا أنه نبي، أتاه الله من العلم ما لم يؤت غيره، لكنه لم يذكر ذلك للملك في معرض النقاش حول الأزمة، وما أحوج الملك في هذه اللحظة بالذات، إلى سماع أحاديث قوى غيبية وعلوم عرفانية.
إنه سيستمع من الملك إلى ما سيستمع، وفي النهاية سيقول أريد مسؤولية محددة عن أمور محددة، وهي المسؤولية التي تتطلب أن يكون صاحبها له صفات محددة، ولديه منها ما يفيد.
أنت هنا أمام سياسي متكامل، صاحب رؤية ومشروع، لم يقل للملك أن “الدين هو الحل”!
رغم أن الكلمة صحيحة بامتياز ورائعة بامتياز، والخطأ فقط عندما تقال في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ للمستمع الخطأ.
لقد قالها يوسف فعلًا، قالها في الوقت الصحيح وبالفعل الصحيح للسامع الصحيح في المكان الصحيح، قالها للناس، والناس مأزومون.
ومتى؟ بعد أن رأوا منه فعلًا وعملًا يؤكد لهم أنه من المحسنين، وأن يرى الناس شيء، وأن يسمعوا شيء آخر تمامًا.
الإحسان
على فكرة.. أكثر ما كانت أوصاف سيدنا يوسف في سياق الآيات ووصف سيرته في الناس أنه كان من المحسنين، وسورة يوسف أكثر سورة ذُكر فيها لفظ “المحسنين”، ذُكر خمس مرات.
“إحسانًا” كان هو بين يدى ربه قائمًا ساجدًا، أو إحسانًا كان هو بين الناس صالحًا مصلحًا، هكذا أخبرنا القرآن.
حياة يوسف عليه السلام
حين تأكد لدى يوسف باليقين أنها الآن تُقال، بل وقد حان قولها، قالها، فحدثهم عن: الله الواحد القهار، وعن ملة إبراهيم، وعن الدين القيم.
لم يخدع نفسه، ولم يسمح لأحد بخداعه، كما حدث مع كثير من الإصلاحيين المعاصرين، ثم إنه ليُقِر بها شكرًا وعرفانًا بينه وبين ربه دعاء وإخباتًا.
متى؟ بعد أن أتم المهمة! وعلى أكمل ما يكون التمام، وذاك الذي سرعان ما صار، وشعر به الناس في كل الأنحاء والأقاليم والبلدان.
فهو وإن كان أمام الملك، حفيظ عليم قائد ضرورة، تتطلبه الساعة وتطلبه الأزمة.
هو هنا بين يدي فاطر السموات والأرض مقرًا ممنونًا بشكر وحمد لا نهاية له: “رب قد آتيتني”، بعد أن أصبحت الكارثة ماضيًا مضى وانقضى، وما بين أيادي الناس الآن لهو النعمة الموفورة والرخاء العريض.
هو يقف موقفه هذا بين يدي ربه، وأعماله العظيمة شاهدة، وبعد اكتمال ثمراتها وكمالاتها وعطاءاتها، التي كان فيها “إنقاذ أمة” وما جاورها من أمم.
يصح إذًا أن يتعلق المصريون بقصة هذا النبي الكريم، ويصح أن تجدهم يكثرون من تسمية أبنائهم باسمه، رغم أن حب محمد (صلى الله عليه وسلم) في قلوبهم لا يضاهيه حب، لكنها فيما يبدو من فطانة المصريين الطيبين النبهاء.
الأرض كانت أرضهم، والخزائن كانت خزائنهم، وحين ناداهم “يوسف” لاقاهم ولاقوه، فعمرت الأرض واغتنى الناس.
مقالات ذات صلة:
النبي ، الإنسان الكامل والرئيس الأول
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا