يعني ايه تربية؟ ( الجزء الثاني ): دور البيئة في عملية التربية وصناعة الإنسان
في مقالنا السابق عن التربية، تعرضنا إلى التربية بالقدوة وأثرها في تربية الأطفال، وبناء شخصياتهم وكنا قد وعدناك عزيزى القارئ والمربي الفاضل بتناول العامل الثاني وهي البيئة ؛ فهي عامل مهم في تربية الطفل، والتي لها آثار عظيمة وكبيرة لا نستطيع أن ننكرها أو نتناساها، لذلك علينا أن نعرف أولا ما هي البيئة، وما هو دورها فى حياتنا، ورؤية بعض مدارس علم النفس في ذلك الدور.
تعريف البيئة
للبيئة مفهومان يكمل كل منهما الآخر أولا ( البيئة الحيوية ) وهي كل ما يختص بحياة الإنسان نفسه سواء تكاثر أو وراثة وتشمل أيضا علاقة الإنسان بكافة الكائنات الحية
أما المفهوم الثانى وهو ( البيئة الطبيعية ) وتشمل الموارد الطبيعية مثل المياه والأرض، والجو وما إلى ذلك من الخصائص الطبيعية .
ونحن جميعا لا نستطيع أن ننكر دور البيئة الهام والمؤثر في حياتنا، وأثرها على الشخصية لكنها قبل أن تؤثر بنا، فإننا نؤثر فيها بالطبع وهنا نستطيع أن نطلق سؤالنا حول دور البيئة.
وهل حتما يتأثر الإنسان بالبيئة المحيطة تأثرا كاملا؟
منظور المدرسة السلوكية والمدرسة الإنسانية
ونعرض رأي المدرسة السلوكية والتي تؤيد بل وتؤكد دور الحتمية البيئية وأن الإنسان نبت البيئة وأنه يكتسب عاداته وخبراته وسلوكه عن طريق التعلم وأن العوامل البيئية هي العوامل الرئيسية التي تعمل على تكوين شخصية الفرد.
وأما رأي المدرسة الإنسانية في دور البيئة فتقول بأن الإنسان كائن ينطوي على خير محض وإمكانات خلاقة وقدرات متميزة، يصبوا دائما إلى أعلى حيث القيمة والمعنى والمثل العليا، وأن وجوده لا يمكن فهمه إلا في إطار من سعيه المتواصل إلى أعلى وتقبله لذاته وتجاوزه لمواطن الضعف في تكوينه.
ويركز الوجوديون أو الإنسانيون على الوعي الإنساني وعلى أن الإنسان موجود فى العالم ويعي بالموت أي العدم، فليس له وجود خارج هذا العالم وأن العالم أيضا ليس له معنى دون وجود الإنسان فهو الذي يضفي على الأشياء معنى، وهو مسئول عن من يكون أو ماذا يكون؟
فالإنسان لا شيء سوى ما يفعله لنفسه ولذا فالإنسان مسئول عن مصيره وعن اختياره؛ فنحن من نختار ما نكون عليه، فالإنسان سيد مصيره وهو كيان فى صيرورة ولذلك ينظر علم النفس الإنساني لتحقيق الذات على أنه جوهر وجود الإنسان فيقولون أنه هناك ثمة حافز فطري في المادة الحية من شأنه أن يدفعها نحو كمال ذاتها والذي يسميه علماء النفس الإنسانيون باسم (تحقيق الذات)
أما فكرة تحقيق الذات فهي ليست فكرة جديدة ولكنها فكرة لها جذور عميقة تصل إلى الثقافة اليونانية الأرسطية والتي أطلق عليها أرسطو (أنتلخيا) بمعنى انتقال ما هو بالقوة إلى ما هو بالفعل فالحركة في تعريف أرسطو هي انتقال من القوة إلى الفعل وبالتالي من وجود إلى وجود آخر.
رؤية أرسطو للنفس
ويعرف أرسطو فى كتابيه “عن النفس ” و “عن توالد الحيوانات” القوة الحيوية التي تميز الكائنات الحية عن الأجسام غير الحية بأنها النفس أو الروح ويطلق عليها اسم الكمال أو الأنتلخيا ويصفها بأنها وحدة عضوية غرضية النشأة.
ويرى أن الكائنات الحية تتركب من مادة وصورة، وأن الجسم هو المادة وصورته هي الحياة أو النفس وأن النفس هي مبدأ الحياة، والحياة الملائمة للجنس البشري تتضمن ممارسة العقل وتطويره وتهذيبه، وفعالية العقل هي الحياة أو أن العقل هو الحياة في أقصى عنفوانها.
ونحن إذ نتفق مع هذه الرؤية الأرسطية التي تؤكد وتوضح أن بصمة الإبداع فينا تعني أن شيئا ما في داخلنا سواء أطلقنا عليه أنتلخيا كما يقول أرسطو أو الذات المبدعة كما يسميها آدلر أو التفرد أو الأنماط الأوائلية كما يقول يونج أو تحقيق الذات كما قال ماسلو .
فإن هناك ما يدفعنا لتحقيق الذات وتوكيد الإمكانات والسعي إلى الكمال والتناغم الفعال مع الكون والتفرد والإبداع والذي هو قاسم مشترك في عالم الإنسان فيرى ماسلو أن الطبيعة الإنسانية هي صرح من الطاقات الكامنة التي تتجه صوب النمو الإيجابي والإبداع وهو خاصية مشتركة بين بني البشر كامنة فينا نولد مزودين بها فمن الطبيعي أن تنبت الأشجار وأن تحلق الطيور وكذلك أن يبدع الإنسان
تأثير الإنسان على البيئة
فلننظر حولنا جيدا وفي أنفسنا؛ فلسنا نسخا طبق الأصل من أهلنا وليست أيامنا كأيامهم على أبسط مثال
فإن التطور والتوسع التكنولوجي، وفي أغلب مجالات الحياة والسيطرة عليها يتضح من خلال التطور الهائل والسريع للتكنولوجيا التي باتت تقرب البعيد، والبنايات التي أصبحت تناطح السحاب، حتى التغيرات السلبية التي أصابت كوكبنا من تلوث أو غيره، فهي إثبات عظيم على أثر الإنسان على البيئة وليس العكس.
لأنه كائن حر مختار متحرك بالإرادة ولا يحركه سواها مهما تدخلت البيئة أو تدخل غيره في حياته إلا أنه يستطيع ويصر على أن يكون، وبحركته يستطيع تغيير الكون بأكمله لو أراد وسعى وتحمل العقبات والموانع في سبيل أهدافه، والأمثلة كثيرة وحيَّة من حولنا فلم يكن والد العالم زويل عالما هو الآخر ولم يكن يعيش بأمريكا حتى، إلا أن العالم أحمد حسن زويل استطاع أن يصل إلى أهدافه بسعيه وهمته وعمله.
وكمثال آخر الدكتور مجدى يعقوب والذي كان والده طبيبا جراحا ولكنه كان جراحا عاما عاش بمصر ولم يكن يتوقع أن يكون ابنه جراحًا عالميًا ينال جائزة فخر بريطانيا أو قلادة النيل العظمى، ونذكر اللاعب المصري محمد صلاح والذي لم يكن أبوه لاعبا أو مدربا أو حتى ينتظر أن يكون ابنه أفضل لاعب بإفريقيا والدوري الإنجليزي بأكمله.
أمثلة حية كثيرة ولكننا نكتفي بأعلام في مجالات مختلفة تفوقوا على البيئة وعلى الحياة بقدراتهم وسعيهم وأعمالهم وإرادتهم الحرة واستطاعوا أن يغيروا أقدارهم بأنفسهم ففعلوا.
رأي د. مصطفى محمود
ويقول الدكتور مصطفى محمود في مقال مخير أم مسير(القراء يقعون في خطأ أولي منذ البداية حينما يقيمون علاقة حتمية بين البيئة والسلوك، وبين الأسرة وتقاليدها وبين الشخصية، وهو تفكير خاطئ فلا توجد حتمية في الأمور الإنسانية، وإنما يوجد على الأكثر ترجيح واحتمال، وهذا هو الفرق بين الإنسان والجماد
كما يقول أن (الإنسان ليس كتلة هلامية سلبية تشكلها حتميات البيئة، ولكنه إرادة صلبة في ذاتها لها حريتها في توجيه الأحداث).
________________________________________
المراجع /
كتاب الإبداع والتفكير الابتكاري وتنميته في التربية والتعليم، تأليف ا.د محمد جاسم محمد ولى ود/ باسم محمد العبيدي و د/ آلاء محمد العبيدي
كتاب مقدمة في الإرشاد النفسي أ.د/ محمد إبراهيم عيد
مقال مخير أم مسير د/ مصطفى محمود
مقال مفهوم الحركة عند أرسطو/ سرو محمد نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 18/5/2012
لقراءة الجزء الاول من المقال: اضغط هنا
إقرأ أيضا: