مقالاتفن وأدب - مقالات

يا محاسن الصدف، هل نشأ العالم من قبيل الصدفة ؟ (الجزء الثاني)

الصدفة والإلحاد

تناول أحد مشاهير “اليوتيوب” مسألة نشأة العالم صدفة في برنامجه مؤخرا، وساق بعض الحجج التي تحاول أن تقنعنا بأن الصدفة قد لا تكون نادرة كما نظن، وبأن الكون يمكن أن ينشأ صدفة كما يدّعي كثير من الملحدين، وقد رددنا على حججه في المقال السابق، ونناقش في هذا المقال احتمالية نشأة الكون صدفة بعيدا عن حججه السابقة.

 

بعيدا عن العروض المسرحية، ما احتمالية نشأة الكون صدفة؟

لنبحث في إمكانية احتمالية نشأة كون يتمتع بدقة ونظام كوننا صدفة، إن كوننا يتكون من عدد ضخم من الموجودات شديدة التعقيد، أحد أنواع هذه الموجودات هي الكائنات الحية، وتتكون أجسام هذه الكائنات من أنظمة حيوية وأعضاء معقدة، ويتكون العضو من أنسجة، والنسيج من خلايا، وتتكون الخلايا من بروتينات، ويتكون البروتين من عدد من الأحماض الأمينية. والبروتين متوسط الطول يتكون من حوالي 150 حمضا أمينيا، فلنبحث أولًا في إمكانية نشأة بروتين واحد متوسط الطول صدفة.

 ما يتطلب لنشأة بروتين واحد

يوجد في الطبيعة حوالي 500 نوع من الأحماض الأمينية، 20 منها فقط هو ما يدخل في بناء البروتينات، وكل حمض أميني له نسختان، نسخة يمينية التناظر وأخرى يسارية التناظر، والنسخ يسارية التناظر فقط هي التي تدخل في بناء البروتينات، وترتبط الأحماض الأمينية ببعضها بنوعين من الروابط أحدهما فقط تدخل في بناء البروتينات وهي الروابط الببتيدية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أي أننا لإيجاد البروتين المطلوب صدفة سنقوم باختيار الأحماض الأمينية عشوائيا من الطبيعة، ويجب أن تتوفر كل هذه الشروط من خلال الصدفة البحتة في 150 حمضا أمينيًا متتاليين وفي الروابط المتكونة بينهم، ثم يجب أن يكون تتابع الأحماض الأمينية مناسبا بحيث يُكوّن بروتينا فعالا، وكل هذا بمحض الصدفة .

و احتمالية ذلك كله هي أقل من واحد إلى 16410، وهذه احتمالية تعتبر مساوية للصفر، أي مستحيلة. هذا كي ينشأ بروتين واحد، مع العلم أن الخلية الواحدة قد يوجد بها ما يصل إلى 20 9 بروتين!

ولكي تتخيل مدى ضخامة العدد 16410 يكفي أن تعلم أن عدد الجسيمات الأولية في الكون هو 10 80 جسيما، وعدد الثواني منذ بداية الكون حسب نظرية الانفجار الكبير 10 16 ثانية، وعدد الأحداث منذ الانفجار الكبير 10 139 حدثا!

استحالة نشأة البروتين الواحد صدفة

فلكي ينشأ هذا البروتين صدفة نحتاج إذًا لتكرار عملية الصناعة العشوائية 10 164 مرة! أي صناعة 10 164 بروتين، واحد منهم فقط سيكون سليما والباقي غير سليم!

وبفرض أن كل مرة صناعة تستغرق ثانية واحدة فإن عمر الكون لن يكفي! علما بأن صناعة بروتين واحد بهذا الطول داخل الخلية الحية المجهزة لصناعته تستغرق ما يقرب من 20 ثانية وليست ثانية واحدة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولو استعملنا كل الأجسام الموجودة في الكون في هذه المحاولات فلن تكفي! ولو أن كل الأحداث التي حدثت في الكون كانت داخلة في صنع هذا البروتين فلن تكفي! ولنتذكر أن هذا بروتين واحد فقط وسط هذا الكون المذهل!

ولو أن كل مرة تكرار تحدث في كون مختلف كما يحاول أن يخبرنا مقدم الحلقة فإننا سنحتاج لتكرار الكون 16410 مرة لكي ننتج بروتينا واحدا صحيحاً! فما بالك بعدد الأكوان المطلوبة لإنتاج خلية! وعدد الأكوان المطلوبة للوصول لكون مثل كوننا!

وهذا يؤدي إلى أن عدد الاكوان المتوازية المفترضة لا يمكن تصوره بأي حال من الأحوال، ويحتاج لموجد مذهل الإمكانيات! أي إله كلي القدرة والإرادة والعلم!

لكن ما هي الصدفة ؟

إذا حدث أن شخصا ما أثناء لعبه لامس ثوبه النار فاحترق، فإن صدور الاحتراق عن النار شيء طبيعي، لكن صدور الاحتراق عن اللعب هو الصدفة ، لأن اللعب لا يؤدي بنفسه لاحتراق الثوب.

فالأحداث التي تحدث في الكون من حولنا لها أسباب، وقد يكون السبب يؤدي لصدور نتيجة ما دائما أو في أكثر الأحيان، كالنار التي ستحرق الثوب في كل مرة تلامسه فيها، إذ يحتوي السبب على المقومات الأساسية المطلوبة لحدوث النتيجة، في هذه الحالة فإن صدور النتيجة عن السبب شيء طبيعي وليس صدفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أما لو كان السبب لا يؤدي بطبيعته للنتيجة، لكنه أدى إليها في إحدى المرات فهذا ما يسمى بالصدفة، كتسبب اللعب في الاحتراق.

وبهذا يتضح أن ما نراه صدفة له سبب طبيعي ملائم له أيضًا، فاحتراق الثوب في المثال هو نتيجة طبيعية لملامسته النار، لكننا عندما نظرنا للعب كسبب للاحتراق رأينا الأمر صدفة، فأي حدث لا بد له من سبب ملائم له وإلا لن يحدث أصلا.

وقد يأتي قائل ويقول إننا لو كررنا اللعب عدد كبير جدا من المرات فبالتأكيد ستأتي مرة ويحترق الثوب صدفة، وهذا صحيح، لكن الثوب عندما يحترق صدفة في إحدى المرات فسيكون السبب هو تسخينه أيضًا، لأن ببساطة لا احتراق بدون تسخين.

لا بد من موجد منظم

وبالتالي فنشأة الكون المنظم والمضبوط بدقة للعناية بالكائنات الحية -أيا كانت طريقة النشأة وأيا كانت طريقة النظر إليها- لا بد لها من موجد منظم معتن حي عالم مريد قادر كما ذكرنا في المقال الأول، فهذا هو السبب الملائم والطبيعي لذلك، مهما حاولنا الالتفاف على الأمر وفرض فرضيات مختلفة.

ولو فرضنا أن النظام والعناية غير موجودين إلا في كون واحد فقط من الأكوان الوهمية التي يفترضونها، أو غير موجودين إلا في جزء بسيط من عالمنا، فإنهما بحاجة أيضا إلى موجد منظم معتن، لأن هذا هو السبب الملائم لهما.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بل الأمر في حالة خلق الكون أكثر تعقيدا، لأن باقي الأكوان المفروضة أو باقي أجزاء الكون تحتاج بدورها إلى موجد أيضًا، ولديه القدرة على إيجاد هذا التنوع أو الوجود الضخم كما أشرنا سابقا.

وعموما فإن تجربة كافة الاحتمالات الممكنة لضمان الوصول لنتيجة ما مثلما يطرح في بعض الأمثلة في الحلقة لا يجعل هذه النتيجة صدفة، بل يصبح صدورها أمرا طبيعيا وحتميا وله سبب ملائم هو هذه التجربة الدقيقة، وهو ما يحتاج أيضا لفاعل عالم بكل الاحتمالات وتفاصيلها وكيفيتها وقادر عليها ومريد لها.
علما بأن صفات الإله المثبتة بالبرهان تنزهه حتى عن ذلك، فهو أعلم من أن يجرب، بل هو من خلق الأشياء وخلق لها نتائجها فلا يحتاج لتجربتها ليعرف نتائجها!

الإلحاد لا منطقي!

وطبقا لما ذكرنا في هذا المقال وسابقه نجد أن الفكر الإلحادي في حقيقته فكر لا منطقي، إذ يناقض نفسه، فكلما حاول إثبات عدم وجود الإله يسوق حججا تثبت وجود الإله أيضا رغما عنه كما سبق توضيحه بالتفصيل.

كما يحاول الالتفاف حول الحقائق الثابتة، فيهرب من حقيقة النظام والضبط الدقيقين للكون ودلالتهما على وجود الإله، ويفترض فرضيات لا دليل علمي عليها مثل وجود عدد لا نهائي من الأكوان.

وترك اليقين واستبداله بظن ضعيف أو بافتراضات لا أدلة عليها هو عمل غير عقلاني وغير منطقي ويخالف البحث العلمي السليم، بل لا يقوم به طفل صغير لديه تمييز، إذ إن الطفل الصغير عندما يرى أمامه قطعتي حلوى فهو يتصرف معهما كقطعتي حلوى ويأكلهما، ولا يفترض أنهما غير موجودتين مثلا.

ما سبب الإلحاد؟

إذًا ما الذي يدفع إنسان لترك الحقائق الواضحة واستبدالها بأوهام؟ ولتبني وجهات نظر تناقض نفسها؟

إما أن لديه ضعف عقلي يجعله ضعيف التمييز بين المنطقي وغير المنطقي، أو تعرض لشبهات لم يستطع كشف الباطل فيها، أو أن لديه دافع نفسي ما.

فالإيمان بوجود الإله أكثر منطقية وعقلانية وعلمية واتساقا مع النفس من الإلحاد كما اتضح في المقالين، ويبدو أن الإلحاد يتطلب تسليم الإنسان بقضايا لا منطقية وفرضيات لا دليل عليها أكثر من الإيمان! كأن يسلم بإمكانية وجود عدد لا نهائي من الأكوان دون دليل، بدلا من الاعتراف بأن النظام يحتاج لمنظم!

اقرأ أيضًا:

يا محاسن الصدف، هل نشأ العالم من قبيل الصدفة ؟ (الجزء الأول)

مركزية الإنسان و مركزية الإله … بين الغاية والهدف (الجزء الأول)

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. أولًا: البحث التاريخي

 

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة