قضايا شبابية - مقالاتمقالات

أمس التقينا

أمس التقينا، لم يكن كما عهدته بشوشًا مرحًا، إذ استبد به الحزن وفارقت شفتيه متعة الكلام وغلب لسانه الصمت –على غير عادته– وهنا سألته: “ماذا ألم بك اليوم يا صديقي، حتى أراك على هذه الحالة المريبة العجيبة التي لم أعهدها منك من قبل؟!”.

نظر إليّ وعيناه زائغتان مغرورقتان بالدموع، ولا تكاد الكلمات تفارق شفتيه، كأن لسانه يقاوم حجرًا ألجمه، وقال لي مهمهمًا باكيًا: “ابني يا دكتور يهدد بالانتحار!”.

نظرت إليه، إذ أعلم السبب، وهو حبه لفتاة تخلت عنه ارتباطًا بغيره في إطار منظومة “العلاقات البشرية الفاسدة”، التي تندرج كذبًا تحت مسمى الحب وهو منها براء.

أمسكت بكلتا يديه وقلت له: “قم معي”، وانطلقنا نحو منزله وأخذت ابنه معي وقلت لصديقي: “دعه لي فهو ضيفي وصديقي وابني الليلة”.

جلست مع الشاب الجميل الذي أنهى دراسته في كلية مرموقة، وهو الابن الوحيد لوالديه، وطلبت منه أن يفتح لي قلبه وأرخيت له عنان الحوار ليحطم جدار الصمت، الذي أطبق على أنفاسه وقهر قلبه وأذل عقله وكاد يورده مورد الهلاك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قال لي الشاب: “أحببتها وأحبتني وتعاهدنا على الوفاء وجعلتها حلمي، واليوم غدرت بي وأنكرتني وأحبت غيري، فكرهت الحياة ولم يعد لها عندي معنى ولا لوجودي فيه مبرر!”.

قهرتني كلماته النقية الملطخة بدماء الغدر البشري المتأصل في قلوب بعض البشر ممن فقدوا قيمة الإنسانية، وهممت بضمه إلى صدري مقبلًا رأسه، ثم حدقت في عينيه بحدة وغضب وسألته سؤالًا واحدًا: “أأنت رجل؟!”.

قال: “نعم”.

قلت: “وما دليلك؟!”.

نظر إليّ متهكمًا من سؤالي ولم يرد!

قلت: “هنا أزمتك الحقيقية يا بني، أنك لم تعِ حتى اليوم معنى الرجولة الحقيقية، ولذا وقعت فريسة لعواطفك البريئة الساذجة العابرة المؤقتة، وتعال الآن أخبرك ما الرجولة فأنصت إليّ:

من الرجولة أن تكون أنت أولًا سيد قرارك وملك ذاتك، لا يحكمك غيرك ولا يستعبد قلبك وعقلك غيرك، فهما سر رجولتك ومكمن قوتك، فإن فقدتهما ضاعت رجولتك وخارت قوتك وجلست كالنساء باكيًا أمامي الآن.

من الرجولة أن تصل من وصلك وتقدر من يقدرك وتعتز بمن يعتز بك، أما من فارقك باختياره فلا تبكِ عليه، فقد اعتمد على سلطان ذاته، وسلطانه لا يجب أن يذل سلطانك، فمن أهانك أهنه، ومن استغنى عنك فارقه، واجعل فراقه كنعلي حذائك تعتز بهما إلى حين ثم تلقيهما في صندوق القمامة غير مأسوف عليهما، فقد صنعا لراحتك ولم يصنعا لتضعهما في صندوق نفائسك يا بني!

ستقول لي أحبها رغمًا عني ولا أمتلك قدرة النسيان ولستَ مدركًا ما بقلبي نحوها، وأقول لك:

أعي ما تقول وأتفهم ما يجول بخاطرك، لكن أتستحق فتاة أن تقتل نفسك من أجلها؟! أيستحق والديك أن يموتا كمدًا عليك بعد أن تطعنهما بخنجر حبك الغبي المزعوم المسموم؟! أيستحق حب مهما كان أن نخسر من أجله الدنيا والآخرة؟! قل لي: أهي أحبتك فعلًا؟!”.

قال: “نعم!”.

قلت: “كذبتما معًا يا بني، كذبت أنت في إحساسك بصدق حبها لك وسيطر عليك الوهم، وكذبت هي في البوح لك بعاطفة كاذبة لم تشعر بها يومًا، إذ ارتدت عاطفتها عباءة الخداع، فتخلت عنك عندما بدأت تتطلع إلى “لعبة جديدة” مسلية بعدما ملت لعبتها الأولى التي هي أنت أيها المخدوع المسكين، لذا فلتعلم أن الحب وفاء أبدي خالد لا تقهره الأيام ولا تكسره الظروف ولا تغيره المبررات والأعذار، فمن استعذب فراقك اتركه كلما حاول خياله أن يداعب ذاكرتك يومًا ما، واعلم أن من اختار الغدر بك سيأتيك حبوًا يطلب منك أن تغفر وتنسى وتسامح!

قم وانهض وتحرر من سطوة القهر ومذلة الخنوع وعار الهزيمة، وانظر إلى نفسك في المرآة نظرة وداع لشخصية مرتهلة بالية آن أوان التخلص من دنسها، لنخلق شخصية جديدة قوية بهدف جديد وحب جديد وعشق جديد. أفهمت معنى الرجولة يا بني؟!”.

نظر إليّ كأنه أول مرة يراني وأقبل علي مقبلًا رأسي قائلًا: “كأني يا أبي خلقت اليوم من جديد، أعدك بأن غدًا يوم آخر”.

تحركنا معًا وسلمته لوالديه في حالته الجديدة ونسخته المعدلة التي أعدتها لحالة “ضبط المصنع” ليبدأ مسيرة الحياة من جديد.

كونوا دائمًا سندًا لمن قهرتهم الأيام وسرقت فرحتهم الأوهام وخدعتهم القلوب، وعزفت الشياطين البشرية على أوتار نقائهم أقذر ألحان الغدر والخيانة والجحود.

أتعبني صديقي وابنه وعدت إلى بيتي سعيدًا بما كان، فأن تعيد الثقة لمن فقدها غدرًا يعد كنزًا من الكنوز التي لن تقدر بثمن.

مقالات ذات صلة:

الحب طريق الإنسان إلى الكمال

عودة من بلاط الأمل المتكسر

حين وقع سقراط في الحب

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د/ محمد جمعة

أستاذ أصول التربية ووكيل كلية التربية جامعة دمياط لشئون التعليم والطلاب