مقالاتقضايا وجودية - مقالات

ونفس وما سواها .. تكوين النفس وسر الصراع!

النفس وتقلباتها

من أغرب الأشياء التي قد تمر عليك أن يكون لك جار، هو بحال مختلف كل يوم، لا بل في كل ساعة، ففي يوم يمر عليك ليقرئك السلام، وفي آخر يمر ليتفل عليك، وفي آخر يقذفك بحجر، والأصعب أنك لا تستطيع معرفة السبب لجهلك بحاله، ولا تستطيع أيضاً توفير مكان آخر لتسكن فيه، ولا يمكنك إجباره على الرحيل ولا يمكنك هزيمته فهو أقوى منك وقد يبطش بك! فبرأيك كيف تتعامل معه؟

هل أعيتك الإجابة؟ أتعلم أنت بصحبة هذا الجار، ولكنك لا تدري!
نعم هو يمتلك منزلاً بجوارك، عفواً أقصد بداخلك، نعم بداخلك، هل عرفته؟ نعم إنها نفسك!

النفس الإنسانية هي أغرب وأعقد ما توقف أمامها العلم، شيء عجيب مثير للدهشة، تدل على إبداع خالقها، وتتطلب منك النظر في حالها؛ فكل شخص منا يمتلك واحدة الآن.

إلا أن الأغلبية قد تفشل في الوصول للحقيقة، حقيقة هذا الشيء، الذي يحركنا، يحدثنا، يأمرنا، يؤنبنا، يحزننا، يبكينا، يفرحنا، يرضينا، يشعرنا بالعجز والحاجة، ويدفعنا إلى أقصى الجبال، كيف يكون هذا وكيف يحل هذا التناقض إن وجد حقاً؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيف لنا أن ننام على حال لنستيقظ على حال آخر؟
كيف وهي بين ضلوعنا مجازاً أن تكون هي الغريبة عنا؟
كيف يكون لها أن تسعدنا وكيف يكون لها أن تشقينا؟
ماذا تكون نفسي بالنسبة لي؟
سؤال قد يبدو بديهيا ولكن فلتسأل نفسك هذا السؤال ولتحاول الإجابة عليه.

إذا أجبت فلنستكمل… كيف يكون لها أكثر من تفسير وكيف اختلف العلماء في تحديد ماهيتها؟

كيف أعالجها إذا مرضت؟ وهل تمرض؟ كيف أتعامل معها؟ وهل يمكن الاستغناء عنها؟
والسؤال الأهم كيف نصنع الانسجام ونحصل على سعادتنا الحقيقية؟

للإجابة عن هذه التساؤلات، ما علينا سوى النظر في كينونة الإنسان، وهي التي تنقسم إلى قسمين أحدهما مادي وآخر معنوي، أما المادي فهو الحقيقة العينية المدركة بالحواس، التي يمكن رصدها ورصد كل ما يصيبها من علل… إلى آخره، وفيها يشترك الإنسان مع غيره من الكائنات، وقد يتميز الإنسان فيها عن باقي الكائنات في أشياء، وقد تتميز الكائنات عن الإنسان في أشياء أخرى.

وهنالك جزء آخر غريب عن عالم المادة، يدعى الجانب المعنوي، وهو كبير وتكثر مشتقاته كما هو الجانب المادي، وسوف نوضح ذلك إن شاء الله تعالى…

الجانب المعنوي يشمل سر الحياة وهو ما يطلق عليه الروح، ويشمل القوى العقلية، ولن نختلف في المسميات؛ إذ إن المقصد الحقيقي من هذا المقال هو محاولة صناعة انسجام حقيقي داخل كينونة الإنسان، بين ماديته الطاغية ونفسه المتقلبة.

ويقع الاختلاف الحقيقي بين الإنسان والحيوان في القوى العاقلة المدركة لحقائق الأشياء من حولنا،

ونرى أن التقاء المعنوي والمادي أضاف كل منهما للإنسان، بأن ألقى كل منهما على الآخر حباله، فألقى الجسد على النفس الغضب والشهوة، وهما رغبات حيوانية لا تدرك، بل تطلب سد حوائجها دون سؤال عن كيف أو لِمَ، ومصدرهما المادة، وألقى المعنوي على الجسد حباله، فكانت القوى العاقلة التي تسمو للخير وتتطلع إليه.

إذا لماذا اختلف العلماء في معرفتها؟ الاختلاف نشأ بسبب اختلاف وجهات النظر إلى النفس، فالبعض نفى وجودها وهذا مردود عليه، ولن نتطرق للحديث عن هذا، ولكن بعض الأمثلة البسيطة، وهي لماذا كلما شخنا وضعف الجسد ازددنا معرفة وخبرة وازدهرت آراؤنا وتكشفنا الواقع بشكل أفضل؟ ألا يدعو هذا للتناقض أو أن تكون لنا سنخية مختلفة تزدهر بمرور الزمن، وأخرى تكبر وتشيخ مع الزمن، لماذا نبكي ونحزن على قتل شخص قد لا نعرفه في فلسطين! بما تأثر الجسد وهو لم يتنقص شيئا، هنالك افتقاد لشيء آخر غير مادي وهو العدل والرحمة. فأين يوجدان؟ أين نحملهما؟ فهما أفكار فلا بد أن نمتلك شيئاً مجرداً؛ حتى ندرك ونفهم المفاهيم المعنوية، كيف لنا أن ننظر في لوحة أم مع ابنها لنقول رحمة؟ كيف للبصر أن ينتزع هذا المفهوم إلا إذا وجد به ما هو أهل لانتزاع المفاهيم المعنوية؟ وأين نحمل الأفكار؟ فكل شيء يحمل في سنخته، كما المحفظة تحمل النقود، العقل المجرد المعنوي يحمل أفكارنا وهو أحد قوى النفس، والبعض الآخر قال بوجودها ولكن نظر إلى آثارها على الجسد، فكان علم النفس، والبعض نظر بالشكل الديني… وهكذا، فمن هنا نشأ الاختلاف.

هل تمرض النفس؟ نعم تمرض ولكن بما أن سنخيتها مختلفة أي تنتمي للشق المعنوي، فإن مرضها يكون أيضاً معنوياً، وقد يؤثر علي المادي كالحزن والاكتئاب وغيره؛ فالمعنوي يؤثر في المادي والعكس؛ فشرب الخمر المادي يغيب العقل المعنوي، وافتقاد حبيب يذرف العيون ويسبب أمراضا عضوية، ودائماً ما يكون سبب إصابة النفس بالمرض هو الخلل الأخلاقي أو الخلل المعرفي.

كيف أتعامل مع النفس؟ أتعامل معها كجزء حقيقي له متطلباته كما الجسد، له حق في المعرفة الحقيقية السليمة وله حق في وضع رؤية للحياة، طالما امتلك وسيلة الإدراك وهي العقل، ولها الحق في إخضاع القلب طالما كانت هي القادرة على المعرفة.

هل يمكننا الاستغناء عن النفس؟ لا على العكس أنا هي النفس لأنها الحقيقة، أما جسدي فهو تلازم لفترة لأكتسب الإرادة والاختيار، ويكون هنالك دوافع حيوانية لينتج هذا الاختيار الحر الذي غايته الخير والسعادة.

أما كيف نصنع الانسجام؟ فهو يتمثل في إعطاء القوى العقلية دورها الفعال في قيادة هذا الكيان، فلا نفس مطمئنة إلا بالوصول للحقيقة والإيمان بها، ولا نفس لوامة إلا إذا علم بالخطأ ولو بالفطرة، وللوصول لهذا الانسجام كان للعقل القبول بحقيقة الأخلاق والقيم، ومعرفة أن بهذا تصلح النفس وتقوم الشهوة والغضب، وفي هذا قال الإمام البوصيري:

والنفس كالطفل إن تهمله شب على * حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

اقرأ أيضاً :

الأزمة المادية وإفسادها للإنسانية – لماذا رفض صاحبنا الدعوة ؟

غريب أمركم أيها الماديون!! – كيف يعرف الإنسان نفسه ويدرك سبب وجوده ؟

مبحث القيم في الفلسفة وإشكالاته – كيف ينظر المنهج التجريبي المادي للأخلاق ؟

مؤمن أحمد سيف

عضو بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ أسيوط