النزعة الإلحادية الجديدة ونصل أوكام .. الجزء الثالث
كيف يمكن أن نربط هذا كله بمسألة العلم ووجود الله؟ كيف يمكن أن نوظفه لتقييم الزعم بأن التقدم العلمي –وفقًا لنصل أوكام– يستبعد اللجوء إلى الله للتفسير؟ دعنا ننظر في كل سؤالٍ على حدة.
هل يتعارض العلم مع الإيمان؟
ردًا على السؤال الأول، من الواضح أن العلم والإيمان بالله لا يستبعد أحدهما الآخر، وقد يزعم بعض المروجين للإلحاد بأن أحدهما يستبعد الآخر، لكن لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن العلم والإيمان متنافران منطقيًا.
لو أراد المرء أن يجادل بأن العلم يستبعد الحاجة إلى وجود الله، فإن حُجته –شأن حُجة المُلحدين الجُدد– يجب أن تنطوي على تطبيق غير ساذج لنصل أوكام، لن تكون المسألة أن العلم يدحض منطقيًا وجود الله، بل يجعل تصور الله تصورًا إضافيًا.
أما السؤال الثاني فيدور حول ما إذا كان هناك اعتماد بين العلم والإيمان بالله، وقد ذهب كثرة من المؤمنين بوجود الله إلى أن هذا الاعتماد قائمٌ بالفعل، وتزعم بعض صياغات الحجة الكونية أن وجود الكون ذاته، ومن ثم العلم، يعتمد على وجود الله.
كتاب وجود الله للفيلسوف المعاصر ريتشارد سوينبرن
بالمثل، ثمة صياغة هامة لحجة التصميم دافع عنها الفيلسوف البريطاني ريتشارد سوينبرن (Richard Swinburne) من مواليد 1934، في كتابه “وجود الله” (The Existence of God) 2004، مؤداها أن الإيمان بالله يقدم أفضل تفسير للنظام في الكون، النظام الذي تُعبر عنه قوانين الطبيعة.
لا تهدف الحُجة إلى تقويض العلم، إنما تهدف فقط إلى القول بأن العلم لا يمكن أن يفعل المستحيل، لأنه أيًا كانت الدرجة التي بلغتها قوانين العلم الأساسية، فإنها تظل عاجزة عن أن تقدم تفسيرًا علميًا لذاتها (لوجودها ذاته).
مع ذلك، يؤكد سوينبرن أنه ما زال من المنطقي أن نبحث عن تفسير لحقيقة أن الكون يعمل وفقًا لهذه القوانين، وأفضل تفسير هو ذلك الذي يتيحه الإيمان بوجود الله، والفكرة هنا هي أن الإيمان بوجود الله يقدم تفسيرًا من نوعٍ مختلف، تفسيرًا شخصيًا وليس علميًا.
تستند حُجة التصميم على أن صقل المعاملات الفيزيائية (Physical Parameters) يوفر سببًا إضافيًا للاعتقاد بأن العلم يعتمد على الإيمان بوجود الله، شأنها في ذلك شأن الحُجج الإيمانية التي تقوم على مدى فهمنا للكون ولطبيعته الرياضية.
الله والعلم والأدلة
يذهب آخرون إلى أن ثمة اعتمادًا تاريخيًا بين العلم والإيمان بوجود الله، على أساس أن العلم الحديث قد تطور في سياقٍ إيماني، وأن سببه هو المعتقدات الإيمانية التي انطلق منها العلم، مثل الاعتقاد بوجود الله خالقًا عاقلًا، وحرية الله في الخلق.
الحق أنه إذا كان هناك أي نوع من الاعتماد للعلم على الإيمان بوجود الله، ومن ثم إجابة بالإيجاب على السؤال الثاني، فإن الحاجة إلى تطبيق نصل أوكام لاستبعاد وجود الله سوف تكون ضعيفة للغاية.
سوف يُسارع أنصار تطبيق نصل أوكام إلى رفض حُجج المؤمنين بوجود الله التي أوردناها في الفقرة الأخيرة، وهدفنا هنا ليس الدفاع عن هذه الحُجج، وإنما لفت الانتباه إلى حقيقة أن عددًا منها، وكذلك الاعتراضات عليها، ذات صلة بمناقشتنا، وأن ثمة مسائل فلسفية خطيرة سوف تُثار على الجانبين.
لا يمكن لأنصار تطبيق نصل أوكام ضد وجود الله أن يفترضوا ببساطة فشل حُجج المدافعين عن وجوده، إن كان تطبيقهم لنصل أوكام به أي قدر من القوة.
ربما كانت هناك عيوب خطيرة في هذه الُحجج الإيمانية، وربما لا، لكن لتجنب الطعن في تطبيقهم لنصل أوكام، فإن على أنصاره أن ينخرطوا في عملٍ فلسفي تفصيلي لتبيان فشل هذه الحُجج الإيمانية، أو على الأقل المجازفة بالإجابة بالإيجاب على السؤال الثاني.
مشكلة الشر ووجود الله
هذا يُضعف من استراتيجية الملحدين الجُدد، فقد كان من المعتقد أن مزيجًا من العلم ونصل أوكام من شأنه أن يختصر هذه العملية بكيفية ما، من خلال تجنب الحاجة إلى دحض الحُجج الفلسفية المفصلة على وجود الله.
لكن الأمر ليس كذلك، ومن الجدير أن نقارن هذه الحُجة ضد وجود الله بمشكلة الشر –الزعم بأن وجود المعاناة في العالم لا يُرجح وجود إله هو في الوقت ذاته كلي الخير، كلي القدرة، وكلي المعرفة–.
أيًا كانت استحقاقات مشكلة الشر حجةً ضد وجود الله، فمن الممكن تأملها إلى حدٍ ما بمعزلٍ عن الحُجج الأخرى الداعمة لوجود الله، فالمرء يمكن أن يجادل بأن مشكلة الشر تتسم ببعض القوة ضد وجود الله، بينما يُنحي جانبًا مسألة ما إذا كانت الحُجج الأخرى داعمة لوجود الله.
بالنظر في السؤال الثاني لتحديد ما إذا كان من الممكن تطبيق نصل أوكام، يبدو أن هذا العزل عن الحُجج الأخرى الداعمة لوجود الله غير متاح في السياق الحالي.
من المهم أن نلاحظ أنه بينما يحظى استخدام العلم ونصل أوكام لاستبعاد وجود الله بشعبية كبيرة لدى النزعة الإلحادية الجديدة وفي نقاشات الإنترنت، فإن هذه الحجة من النادر وجودها في أدبيات الفلسفة.
يميل الفلاسفة الملحدون إلى التركيز أكثر على الاعتراضات القياسية على الاعتقاد في وجود الله، مثل مشكلة الشر، وهم مدركون تمامًا لمدى صعوبة جعلها حجة مقنعة تقوم على العلم وتطبيق نصل أوكام.
اقرأ أيضاً:
قدرة الله في الطبيعة
إجابة السؤال الثالث أكثر صعوبة بالمعنى المجرد، لكنه يُصبح أكثر ارتباطًا في حالات معينة يسود فيها الاعتقاد بأن العلم ربما يستبعد وجود الله، سوف ننظر فيه الآن بمناقشة نوعية للتطور.
من المهم أن نلاحظ أن المؤمنين بوجود الله يعتقدون غالبًا في تفسيرات إيمانية لخواص العالم بوصفه لا يعمل بمعزل عن العلم، بل من خلال القوانين العلمية.
إن الظواهر الطبيعية يتم تفسيرها بشكلٍ مباشر من خلال العلم، وبشكل غير مباشر فقط من خلال الله، والطريقة الوحيدة لذلك هي القول بأن عمل الله في الطبيعة يتم من خلال الأسباب التي يمكن وصفها علميًا.
يجري هذا الاعتقاد من خلال سلسلة سببية فيه (أ) تسبب (ب)، و(ب) تسبب (ج)، ومن ثم يأتي تأثير (أ) على (ج) من خلال (ب)، والنتيجة الهامة لتفسيرنا الصوري لتطبيق نصل أوكام تُوضح أنه لا ينطبق على المتسلسلات السببية.
مبدأ أوكام لا ينطبق على المتسلسلات السببية
لنفرض أن صديقك قد حجز في أحد القطارات كي يلتقي بك في محطة السكك الحديدية، لكنه لم يصل في الموعد المُحدد، قد يكون أحد التفسيرات أنه تخلف عن ركوب القطار، وقد يكون تفسيرٌ آخر أنه قد تأخر في العمل.
تشير الأدلة إلى أنه قد تخلف عن ركوب القطار، لكن نصل أوكام مع ذلك لن يقضي بالتخلص من الفرض الآخر القائل بأنه قد تأخر في العمل.
لماذ؟ لأن تأخره في العمل هو السبب في تأخره عن ركوب القطار، وبالمثل، إذا كان التفسير السابق القائل بأن الله يعمل من خلال الأسباب الطبيعية صحيحًا، فإن نصل أوكام لا يمكن أن يطبق ضد وجود الله، حتى ولو كانت الأسباب الطبيعية تفسر كل الأدلة المتاحة لنا حاليًا.
فرض واحد لا يكفي
ماذا عن السؤال الرابع؟ لدينا بالتأكيد أسباب وجيهة لقبول ما يخبرنا به العلم عن العالم، في حين نقبل أيضًا أن العلم غير معصوم.
في بعض الحالات، يؤدي صدق فرضٍ ما إلى قبول تطبيق نصل أوكام بشكلٍ أكثر معقولية، كما في مثالنا المبكر عن السيارة التي لا تعمل.
في حالات أخرى، كما في مثال الحادث المروي، لا ينطبق نصل أوكام، ومن ثم يصبح السؤال الرابع غير ذي صلة.
إن معرفة صدق فرضٍ ما في هذه الحالة لا تقوض، بل قد تعزز، الفرض الآخر، وحتى في الحالات التي قد يكون فيها نصل أوكام قابلًا للتطبيق، فإن مجرد احتمال صدق فرضٍ واحد ليس كافيًا لتطبيقه.
على سبيل المثال، في حالة السيارة التي لا تعمل، يمكننا تطبيق نصل أوكام بمجرد ما يكون لدينا سببٌ وجيه للاعتقاد بأن ثمة مشكلة في البطارية، لكن مجرد احتمال وجود هذه المشكلة لن يعطينا تطبيقًا مستحقًا للنصل.
هذا يعنينا هنا لأن الملحدين يلجأون أحيانًا إلى الأفكار غير المؤسسة علميًا بهذه الطريقة، فعلى سبيل المثال، في ردهم على صقل قوانين الطبيعة دليلًا على وجود الله يزعمون أن احتمال وجود أكوان متعددة يستبعد الحاجة إلى وجود الله.
أيًا كانت استحقاقات حُجج الصقل، فإن الإشارة إلى الإمكانية المحضة لوجود أكوان متعددة غير ملائمة ردًا.
تعرف على: أحجية نظرية الصدفة
اقرأ أيضاً: العقل والسؤال
تفسيرات التطور
لعل أكثر محاور العلم شهرة فيما يتعلق بمسألة إنكار وجود الله هو بلا شك التطور والتصميم (Evolution and Design).
في معية القول بنجاح نظرية داروين (Darwin) في التطور بالانتخاب الطبيعي (Natural Selection)، مع الوضع في الاعتبار الإجابة بالإيجاب على السؤال الرابع، هل يمكن أن نستبعد الحاجة لوجود الله لتفسير الحياة الذكية؟
هل يمكن التصالح بين الإيمان ونظرية التطور؟
إذا أردنا الإجابة عن السؤال الأول لقلنا إن التطور والإيمان بوجود الله لا يستبعد أحدهما الآخر، وقد يزعم البعض أن التطور يستلزم الإلحاد، لكن هذا الزعم لا يمكن تأسيسه علميًا.
فضلًا عن ذلك، وحتى أولئك الذين يستخدمون التطور حجة ضد وجود الله –أمثال دوكينز– لا يستخدمونه على أساس من التوافق المنطقي، بل بواسطة نصل أوكام، زعمًا بأنه يستبعد اللجوء إلى فكرة وجود الله للتفسير، وليس دحض وجود الله ذاته.
أنصار التطور يبطلون الحُجج الإيمانية
فيما يتعلق بالسؤال الثاني، ثمة أسباب متعددة يمكن أن يُقدمها المؤمن للاعتقاد بأن التطور يعتمد على الله، فالتطور يستلزم بوضوح كونًا فيزيائيًا منتظمًا، تحكمه قوانين علمية ملائمة، وكذلك صقلًا جيدًا لمعاملاتها الفيزيائية.
كل هذه السمات للكون تشكل أساسًا لبعض الحُجج الإيمانية الرئيسة في الأدبيات المعاصرة، وكما أوضحنا في مناقشتنا للسؤال الثاني، فإن أنصار الحجة التطورية ضد وجود الله سوف يرفضون هذه الحُجج.
لكن نظرًا لأهميتها هنا ليس من الممكن تنحيتها جانبًا، وبعبارة أخرى، فإن تبيان أن التطور يستبعد وجود الله سوف يستلزم حُججًا مفصلة توضح كيف أن خواص الكون التي هي ضرورية للتطور لا تدعم الاعتقاد بوجود الله.
التطور وأصل الحياة
بالنسبة للسؤال الثالث، فإن أرجحية الفكرة القائلة بأن الحياة الذكية قد انبثقت ببطء عبر عمليات تطورية غير موجهة هي فكرة بعيدة عن الوضوح.
ليس هذا انتقادًا لنظرية الانتخاب الطبيعي، لكنه فقط إدراك مؤداه أن تطور الحياة الذكية ربما اعتمد على حوادث عرضية عالية تمت عبر تاريخ الحياة على الأرض.
على سبيل المثال، يتحدث ريتشارد دوكينز عن أصل الحياة في معية التحولات التطورية الأخرى، التي ربما احتاجت إلى جسر من الحظ الكامل (وهم الله، ص 140).
بصرف النظر عما إذا كان الله قد وجه العمليات الطبيعية لتحقيق الحياة الذكية، بل وعن كيفية ذلك، فإن هذا يفترض إجابة بالنفي عن السؤال الثالث، ويثير كذلك مشكلة خطيرة لمحاولات تطبيق نصل أوكام في هذا السياق.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا