“وأنا كمان مش قليل الأدب.. الأخلاق دي حاجة نسبية أصلا!” كيف يتم التلاعب بالأخلاق؟
تُفاجِأنا النسبية الأخلاقية كل يوم بمفاجآت ومهاترات أشد تهافتا أو تناقضا من التي سبقتها. تظهر النسبية في قيم الأخلاق كتسلسل طبيعي للنسبية في علم المعرفة وفي علم الوجود الفروع الثلاثة لشجرة الفلسفة. ولكن نجد فداحتها وآثارها السيئة ملحوظة أكثر في مبحث القيم أو الأخلاق؛ ذلك لارتباط هذا العلم المباشر بالسلوك؛ فكل خلل سلوكي يتبع خللًا في علم الأخلاق والقيمة. ما الهدف من النسبية؟ وما النتائج الحتمية التي ينبغي أن تصدر من النسبية الأخلاقية؟ وما هو مظهر ازدواجية المعايير في النسبية التي نشاهدها اليوم في بلادنا؟
النسبية في الأخلاق بدأت مع بعض محاولات السفسطائيين في أثينا اليونانية قديما قبل سقراط. فذهب بعضهم إلى أن الإنسان هو معيار الحقيقة لا غير. فأنت ترى أن ذلك حق وأن ضده باطل لا لأن واقع الأمر كذلك لكن لأن هذه رؤيتك.
وظهرت نعرات وأمثلة بها خلل تشبيهي تحاول تبين استحالة التعرف على الحقيقة كاملة كمثال “الفيل والعميان”. تطورت النسبية عند دخولها لمبحث القيمة لتصل في ابتذالها إلى ظهور المذهب الهيدوني أو الهيدونيزم على يد المدعو أريستيباس والذي يقال أنه تلميذ سقراط ولكن محاورة “فايدروس” التي سجلها التلميذ “أفلاطون” ليوضح وجهة نظر أستاذه في الجمال والقيمة قد تبين للناس أن سقراط والمدرسة السقراطية بريئة من هذا الاتجاه.
الغرض من النسبية الأخلاقية
ظهرت الهيدونية كمذهب فكري يدعي أن القيمة العليا هي اللذة. واللذة فقط. اللذة في الحاضر ناهيك عن الماضي أو المستقبل وأنه لا فرق بين لذة وأخرى. فبينما تكلم سقراط عن التسلسل الهرمي في اللذة واعتبر أن لذة عالم المجردات والاتصال بالملكوت الأعلى هو على قمة هذا الهرم. حاول أريستيباس أن يساوي بين اللذات وأن يحولها لميل شخصي فكل إنسان يتبع لذته التي يفضلها وينغمس فيها بلا تمييز.
ولا نرى في دعوات نسبية القيمة شيئًا أفدح من هذا المنهج؛ فنرى أن محاولات النسبية الأخلاقية المعاصرة تتمنى لو تصل لهذا المستوى من الدونية ولكنها تحاول ذلك تدريجيا حتى يستطيع المجتمع تقبل جرعة الإباحية واللا أخلاقية دون صدمة تفيقه كمثال “الضفدع والماء الساخن”. هذا هو باختصار الهدف من نسبية الأخلاق.
قد نحترم (بالحد الأدنى) دعوات النسبية الأخلاقية “افعل ما شئت فكله جيد” لو التزم أهلها بكل نتائجها وهي ببساطة “افعل ما شئت” ولكن نجد عندهم ميزان القياس مختلًا ويتصف بالازدواجية. فهم لا يريدون قبول كل التصرفات السلوكية ولكن فقط التصرفات السلوكية التي اتفقوا عليها أنها تخضع لجانب الحرية الشخصية كوضع مساحيق التجميل أو الاختلاط غير الأخلاقي بين الرجال والنساء أو بعدم الالتزام باللبس الذي يراعي القيم الأخلاقية السامية التي لم ينادي بها الإسلام فقط بل كل الأديان السماوية.
إزدواجية المعايير
بينما تجد نفس الأشخاص يقومون بحملات ضد الإدمان والألعاب النارية وظاهرة التحرش المقززة التي تهدد بناتنا وأخواتنا المحترمات وتشوه نسيج المجتمع. وأوضح هنا وبضراوة ووضوح أنني لست هنا لأبيح أو أدعو لقبول تلك الظواهر السيئة (الإدمان والتحرش) في مقابل قبولنا بدعوات النسبية الأخلاقية التي يقبلون هم بها. أنا هنا فقط لأنتقد ازدواجية المعايير بالأصح لإبراز نقطة غياب المعايير من الأساس وتغلب الهوى حتى على النسبية لينسفها.
فيا من اتخذت النسبية الأخلاقية مذهبا لتبرير سلوكياتك التي شعرت أن المجتمع يعنونها بعنوان (قلة أدب) لماذا تمنع غيرك من المبتلى بتصرف سلوكي غير محمود اجتماعيٍّ أن يستخدم نفس السلاح لتبرير تصرفاته؟ هل لأنه فجأة أصبح فعلك أفضل أو أقل ضررا من فعله؟ إذا لقد كسرت قاعدتك أن كل اللذات والقيم السلوكية متساوية وأن تفضيلها معيار شخصي لا معيار عام وثابت.
وفي النهاية نقول أن أي مجتمع لا يضع المعيار الواضح الذي يستمد منه القيمة والسلوك الفاضل ليميزه عن السلوك المتسافل هو مجتمع يسير نحو حفرة لا قاع لها وتهاوي أخلاقي لا نهاية لتسافله فكلما وصلنا لدرجة ظننا أنها النهاية في التسافل فتحت لنا أبواب جديدة للتسافل.
لا أرجح هنا مصدر معياري للأخلاق والسلوك على مصدر آخر لكن بالطبع أرفض كل الرفض غياب المعيار (النسبية القيمية المطلقة) أو ازدواجية المعايير (النسبية القيمية الحداثية اللقيطة التي نعاصرها) ذلك أنها لا تحقق هدفا وغاية واضحة من السلوك بل تتركه في يد الكثرة أو القوة أو المنفعة لتحدد سماتها وكل تلك المعايير متجددة ومتغيرة فيصبح ما كان بالأمس صحيحا خاطئا والعكس بالعكس.
إيجاد المعيار
أم مبحث إيجاد المصدر والمعيار فهو مبحث يبدأ من التفكير (المنطق) ثم الوجود (ما هو كائن) ثم الأخلاق (ما ينبغي أن يكون) ولا يمكن أن تبني العمارة قبل أن تبني أساسها وللأسف المجتمع اليوم يفتقد للأساس الراسخ الذي يمكنه من تشييد قلعته الأخلاقية والسلوكية نتيجة للنسبية التي توغلت في كل مباحث الفلسفة وقوضتها ونحرت في جسدها الشربف عن كل تلاعب وإفساد.
أما لو رفضنا البحث عن المعيار والنصدر العام للقيم والأخلاق والسلوك فلنعلم جيدا نتيجة اختيارنا هذا ولا نتعجب لو وجدنا في يوم ما كان يصدمنا أخلاقيا صار مقبولا اجتماعيا والأيام دول. فاليوم موجة النسبية الأخلاقية تأتي بما يفرح مجموعة معينة ويعزف على أوتار شهوتها ولكن غدًا ستأتي الرياح بما لا تشتهي سفنهم. دعوة لليقظة قبل السقوط أكثر في هاوية التسافل والنسبية الأخلاقية.
اقرأ أيضاً .. من العُجب إلى الحب
اقرأ أيضاً .. أنا خير منهم
اقرأ أيضاً .. فين اخلاقكم
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب