مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الخامس

رابعًا: أخلاقيات الممارسة الكيميائية

لا تكتمل الصور الجمالية للبحث الكيميائي إلا بمعية قواعد أخلاقية تحكم السلوك العملي للقائمين بهذا البحث، وتحدد أُطر التطبيق المشروعة لنتائج أبحاثهم، وتكشف قبل ذلك عما تُسفر عنه تطبيقاتهم الإنتاجية من تأثيرات قد تكون مدمرة للإنسان والبيئة بقدر ما تكون نافعة وضرورية في كثير من الأحيان.

لا شك أن معظم الفلاسفة المعاصرين لديهم إدراك واضح للمسائل الأخلاقية المرتبطة بالبحث الكيميائي، كتلك التي تتجلى مثلًا في تطوير الأسلحة وإنتاجها، وإعادة تركيب البنى الجزيئية للكائنات الحية، بالإضافة إلى التطبيقات الصناعية التي تُخلـف تلوثـًا بيئيًا متسارعًا منذ بدايات العصر الحديث. على أن هذه المسائل في الحقيقة لا تُناقَش في إطار مبحث أخلاقي خاص بالكيمياء –رغم أن هذه الأخيرة تمثل القاسم المشترك لمعظم فروع العلم المعاصر– إنما تُناقَش تحت مسميات مختلفة ومتعددة، مثل «أخلاق الطب»، «أخلاق البيئة»، «أخلاق التكنولوجيا»، «أخلاق الحرب»، إلخ. وعلى أية حال، فإن أية قواعد أخلاقية خاصة بالعلم –على تعدد تخصصاته– هي جزءٌ لا يتجزأ من القواعد الأخلاقية العامة للجنس البشري، تلك التي ظلت بمثابة الشغل الشاغل للفلاسفة عبر قرون طويلة، وإن كانت لأخلاق العلم بالضرورة دلالتها النسبية التي تعكس اهتمامات وأهداف جزئية داخل نطاق العلم أو التخصص النوعي الواحد.

أمامنا إذًا ثلاث قضايا نهدف إلى مناقشتها وتبيان مغزاها وأهميتها فيما تبقى من هذا المقال: الأولى كثافة التطور الكيميائي وتفرده بوصفه المنبع الذي تستقي منه معظم فروع العلم الطبيعي مبررات قيامها وتطورها في أوقاتنا الراهنة، والثانية نسبية القواعد الأخلاقية للعلم –بما في ذلك الكيمياء– وعلاقتها بالنسق الأخلاقي المقنن لسلوك الإنسان بصفة عامة، أما الثالثة فتتمثل في مدى إمكانية قيام نظام أخلاقي عام وشامل يوجه البحث الكيميائي وسط أمواج علمية وسياسية واقتصادية متلاطمة، ومن ثم يحدد حقوق المشتغلين بهذا البحث وواجباتهم في عالم تماهت فيه المسؤولية بين أكثر من طرف، سواء عن قصد أو عن غير قصد.

أ‌. كثافة التطور الكيميائي: مسؤولية مضاعفة

لا نجافي الحقيقة إن زعمنا أن الكيمياء العلم الأسرع والأكثف تطورًا من بين جملة العلوم النوعية التي يشتغل بها الإنسان في عالمنا المعاصر، ذلك أننا لو اتخذنا من عدد الأعمال المنشورة في إطار علم ما –التي تتسم بالجدة والأصالة– مقياسًا لنمو هذا العلم وتطوره، لوجدنا أن الكيمياء تحتل الآن المرتبة الأولى في سلم التطور العلمي، متخطية بذلك النظم العلمية الأخرى كافة، بما في ذلك الرئيسة منها كالفيزياء والبيولوجيا. ولا يفتقر زعمنا هذا إلى الدليل الإحصائي، ففي المائتي عام الماضية تقريبًا كان تركيب الجواهر الجديدة بمثابة النشاط التجريبي الأساسي للكيميائيين. ومع اقتراب القرن العشرين من نهايته بات لدينا أكثر من ثلاثة ملايين كيميائي –على المستوى الدولي– يقدمون سنويًا ما يقرب من 570.000 ورقة بحثية تقريرًا عن نحو 900.000 جوهر كيميائي جديد! ويكشف تحليل المحتوى لثلاثمائة ورقة بحثية –مختارة عشوائيًا– في الكيمياء العامة عن أن التركيب والتمييز لجوهر جديد واحد على الأقل هدف مركزي في 75% من الأوراق، في حين تهدف نصف الأوراق تقريبًا إلى تحسين القدرات التركيبية عمومًا. أما التطبيقات التكنولوجية للجواهر الجديدة فنجد اهتمامًا قويًا بها بنسبة 25% من عدد الأوراق، وذلك إما على نحوٍ صريح وواضح، وإما ضمنيًا بالإشارة إلى خواص ليست ضرورية لتمييز الجواهر. هذا بالإضافة إلى أهداف ثانوية تتضمن شرحًا لأنماط التصنيف، واكتشاف السمة البنائية، وبدرجة أقل تطوير النماذج والنظريات.

وإذا كانت الكيمياء التركيبية –وفقًا لهذا الإحصاء التحليلي– تمثل كلًا من الوسيلة والهدف لمعظم الكيميائيين المعاصرين، إلا أننا يجب أن نتنبه إلى أمرين، الأول: أن عدد البحوث الكيميائية المنطوية على تطبيقات تكنولوجية للجواهر ليس بالعدد الهيّن، فنسبة 25% من العدد الإجمالي لهذه البحوث تعني أننا أمام ما يربو على 142.000 محاولة تطبيقية سنويًا. ورغم افتراض حسن النية ونبالة الدافع نسبيًا فيمن يقومون بهذه التطبيقات، فتأثيراتها السلبية تخرج في كثير من الأحيان عن نطاق السيطرة، ومن ثم تتضاعف مسؤولياتهم الأخلاقية أمام أنفسهم من جهة، وأمام مجتمعاتهم من جهة أخرى. أما الأمر الثاني: تنوع مجالات التطبيق للكيمياء المعاصرة، وتضافر قطاعات بحثية عريضة لتطويرها، سواء من داخل الكيمياء ذاتها –كالكيمياء الضوئية (Photochemistry)، الكهربائية، الحيوية، الدراسات التحليلية والفيزيوكيميائية (Physicochemical)، إلخ– أو من علوم أخرى لا تقل أهمية، كعلوم الفضاء وعلوم الأرض والمادة وعلم الصيدلة (Pharmacology) وعلم الجينات (Genetics) والفسيولوجيا (Physiology)، إلخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا تبرز الكيمياء لتشمل مظاهر النشاط الإنساني جميعها تقريبًا، فمداها الواسع يمتد من النهوض بكثير من الصناعات من ناحية، إلى التوسع في فهم آلية الحياة ووسائل إطالتها من ناحية أخرى. وبعد أن كانت الصناعة الكيميائية تمثل جزءًا صغيرًا من القطاع الصناعي في مطلع القرن العشرين، أصبحت اليوم من أكثر صناعات العالم تطورًا وديناميكية، إن لم تكن أولاها على الإطلاق في هذا الشأن. وليس أدل على ذلك من التضاعف السريع سنويًا، سواء في أعداد الكيميائيين الذين يمثلون اليوم أكبر مجموعة عمل مهنية، أو في حجم الاستثمارات الموظفة دوليًا في مجال الإنتاج الكيميائي، فعلى سبيل المثال بلغ عدد الأعضاء في الجمعية الكيميائية الأمريكية وحدها 159.332 عضو حتى ديسمبر من العام 2003 –ناهيك بالعدد الإجمالي للكيميائيين والفنيين المشتغلين بالبحث والصناعة الكيميائية– في حين تضخم الإنتاج العالمي من المواد الكيميائية حتى بلغ ما قيمته 1.533 بليون دولار أمريكي، هذا خلاف النواحي الأخرى المرتبطة بالكيمياء، التي تزداد اتساعًا وكثافة حتى أنه ليصعب تقييمها في أية لحظة.

لا شك أن هذه التطورات السريعة في الكيمياء –بحثـًا وإنتاجًا– كان لها مردودها الإيجابي في قلب التطور الحضاري للإنسان: مكافحة الأمراض بالأمصال واللقاحات المختلفة، مقاومة الآفات وتنمية المحاصيل الزراعية، إنتاج الألياف المخلقة وشبه المخلقة التي تدخل في صناعة أنواع الأقمشة كلها، إنتاج مواد البناء الهامة وتطويرها مثل البويات واللواصق ومواد العزل واللدائن وغيرها، توفير مصادر جديدة للطاقة بالإضافة إلى معالجة مصادرها التقليدية كالفحم والبترول، إلخ، حتى لقد بدت الكيمياء مع بداية القرن الماضي بمثابة المنقذ للإنسان مما يتهدده من أخطار كانت نذيرًا بفنائه. على أنه في الوقت الذي كان فيه الإنسان على وشك أن يكسب هذا الرهان الوجودي الضخم، بدأت تظهر في الأفق أخطار جديدة تتهدده، وهي أخطار مبعثها العلم ذاته وتطبيقاته.

لقد أصبح التلوث الكيميائي ثمنـًا لا مفر من دفعه لقاء الانفجار الصناعي، بل وأخذت هذه الظاهرة أبعادًا هائلة وخطيرة في السنوات الأخيرة، فقبل الحرب العالمية الثانية كان الناس يشربون بلا خوف من مياه بحيرات تُمنع فيها السباحة اليوم، كما كانوا يسبحون أطفالًا في مياه أنهار لا يخطر ببالهم اليوم أن يبللوا أيديهم فيها! وبعبارة أخرى، لم يعد التلوث اليوم محض أقذار موضعية تتكفل الطبيعة بمعالجتها ذاتيًا، بل أصبح “تدنيسًا عامًا للطبيعة”، من حيث أن آثاره يتسع نطاقها على نحو لا يمكن التنبؤ به أحيانًا، ذلك أن الأمر يتعلق بانتشار بطيء ومستتر ومتواصل في الهواء والماء والتربة لجزيئات شتى تنتج وتتوزع بمقادير متزايدة باطراد. وتشكل هذه المواد إما نفايات لأنشطة صناعية: نواتج الاحتراق والنفايات النووية والمعادن الثقيلة، أو جزيئات كيميائية يستخدمها الإنسان في كفاحه ضد أنواع أخرى ومساعدات كيميائية للزراعة بوجه خاص. وليس للتنقية الذاتية للطبيعة أي تأثير في مثل هذه المواد، فمبيدات الآفات والمعادن الثقيلة والمنظفات غير القابلة للتحلل البيولوجي والدفوق الصناعية– تمر كلها عبر محطات التنقية التقليدية دون أن تتأثر بها على الإطلاق، ثم تتجه نحو الأنهار والبحار وتتسلل شيئًا فشيئًا إلى داخل الكائنات الحية، فهي تتجمع مثلًا داخل طبقة البلانكتون (عوالق تطفو على سطح البحر، وتتكون من كائنات نباتية وحيوانية بالغة الدقة، وتتغذى عليها الحيوانات البحرية)، إذ تنتقل منها إلى الأسماك التي تتغذى بها، التي تكون لحومها عندئذ بمثابة شراك للسموم. وفي نهاية هذه السلسلة الغذائية يتهدد الخطر الإنسان نفسه، الذي هو في حاجة إلى آلاف السنين لكي يتكيف لسُم تستطيع البكتريا أو الحشرة أن تتكيف له في بضع سنوات!

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية