إصداراتمقالات

هل يخلق المجتمع الأخلاق ؟

هل يخلق المجتمع الأخلاق ؟

الأخلاق في فلسفتها عبارة عن أمر ونهي، أمر بالجميل ونهي عن إتيان القبيح.. فهل يمكن أن يكون المجتمع هو الآمر والناهي؟ هل يمكن للمجتمع أن يخلق أخلاقًا؟
لذلك الاتجاه الذي يؤمن بأن الأخلاق “اجتماعية ” مؤيدوه والمنظرون له، ومنهم الفيلسوف الفرنسي ” هنري برجسون ” الذي يجيب في كتابه ” منبعا الأخلاق والدين ” عن سؤالنا قائلًا: ” قد درجنا على طاعة الآباء والمعلمين على أننا كنا نشعر تمامًا أننا إنما نطيعهم لأنهم آباؤنا، ولأنهم معلمونا، فليس سلطانهم ناشئًا إذن عن ذواتهم، بقدر ما هو ناشئ عن مكانتهم بالنسبة إلينا، فهم يحتلون منزلة ما، ومن هذه المنزلة يصدر أمرهم حاملًا من النفوذ ما لا يتيسر له لو أنه صدر عن غيرهم، كنا ننظر إلى هؤلاء الآباء والمعلمين على أنهم يعملون بالنيابة عن غيرهم، كنا نقدر أن وراءهم شيئًا هائلًا أو قل غير محدود يجثم على كواهلنا بواسطتهم وذلك هو المجتمع ” [1] وفي نشوء الأمر والنهي الاجتماعيين يقول: ” ونلاحظ في الواقع أن هذه العادات إما يقتضيها محيطنا المباشر، أو محيط هذا المحيط، وهكذا، حتى نصل إلى الحد الأخير وهو المجتمع وكل عادة منها إنما تلبي مطلبًا اجتماعيًا، على نحو مباشر أو غير مباشر، ولذلك فهي تتماسك وتكون جملة واحدة ” [2] بالنظر إلى فرضية برجسون.. من أين يأتي المجتمع بأمره ونهيه إذا كانت شبكة العلاقات الاجتماعية في مجتمع ما هي التي ” تخلق الأخلاق ” تبعًا لبرجسون، فكيف تنتجها وتكون محتكمة لها في آن واحد؟ أم أن المجتمعات تمر بأطوار مختلفة أو أشكال مختلفة للتعامل حتى يتسنى لها الحكم على نمط علاقاتي معين، شيء كتجارب الأداء التي يقوم بها الممثلون مثلًا؟ هل ذكر التاريخ شيئًا كهذا؟وكيف يضمن ذلك النموذج ثبات القيمة الأخلاقية؟ وكيف يخلق مجتمع ظالما قيمة اخلاقية على سبيل المثال؟
ووفقًا لفرضية برجسون فإن الأخلاق لا ينتجها الأفراد بوصفهم أفرادًا بل بوصفهم أشخاصًا في مجتمعات، أي أن منشأ الأمر والنهي هو التزاحم والعلاقات بين الأشخاص، وعليه فالقول بأن أفراد المجتمعات هم مصدر الأخلاق فيها باطل في عرف نظرية الأخلاق الاجتماعية أصلًا!
وبالعودة إلى فلسفة القيمة الخلقية، فإن المفتاح للبحث عن مصدر الأخلاق هو البحث عن الآمر الناهي، من يأمر وينهى؟
وبعد بيان أنه لا يمكن أن يكون المجتمع، فلننظر إلى الإنسان ذلك الذي استمد وجوده من إله وجب له العلم، وفاض على الإنسان بالعلم.. هل لذلك الإنسان أن ينتج شيئًا خارج ما أفاض الله عليه به؟ ذلك محال فالله هو مصدر كل علم ومصدر كل وجود، وبالتالي وجب له أن يكون مصدر كل أمر وكل نهي!
وهذا هو جوهر النموذج الائتماني الذي يقدمه الدكتور طه عبد الرحمن في فلسفة الأخلاق ، والذي يسلم بالفطرة الروحية التي تحتفظ بآثار اتصال الروح بعالم الغيب وتحفظ أمر الله، والذي يسلم أيضًا بأن الشاهدية هي أصل كل تخلق، فعلاقة الإنسان بالله ليست فقط علاقة الآمر والمأمور بل أيضًا الشاهد والمشهود، فهو شهيد دومًا على عباده، وعلى إتيانهم أمرهم واجتنابهم نهيه!
وعن كون الأخلاق -وما تمثله من قانون اجتماعي أو روح تسري مجتمعيًا وتشكل نمط معين لشبكة العلاقات الاجتماعية- دينية أو إلهية يقول مالك بن نبي في كتابه ” ميلاد مجتمع “: ” فالعلاقة بين الله وبين الإنسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهي تلدها في صورة القيمة الأخلاقية ” [3] ويقدم مالك بن نبي مثالًا من المجتمع العربي الجاهلي الذي انتشرت فيه عادة ” وأد البنات ” وكان السبب الرئيسي في انتشارها الحالة الاقتصادية، ولما نزلت آيات القرآن الكريم تشرع (قانون الموءودة) في: ” ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم” سورة الأنعام، و” ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ” سورة الإسراء، كان أن انحسرت تلك العادة على الرغم من عدم تغير الوضع الاقتصادي، وكان ” من العسير أن ينسب نفي هذا الوأد إلى تأثير العوامل الاقتصادية ذاتها ما دامت لم تتغير “[4] كما يقول مالك بن نبي في كتابه.
وعليه فإن التغير الذي شهده المجتمع لم يكن نابعًا من ذاته! وفي ذلك يقول مالك بن نبي: ” فالعلاقة الاجتماعية التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني ” [5] مقررًا أن المجتمع لا يخلق القيمة الخلقية التي تنظم حياته، وإنما مصدرها الإله العليم الذي له الأمر والنهي وحده.

[1]هنري برجسون – منبعا الأخلاق والدين –طبعة مكتبة الأسرة 2010 ص 21
[2]المصدر نفسه ص22
[3]مالك بن نبي –ميلاد مجتمع- شبكة العلاقات الاجتماعية ص 56
[4]المصدر نفسه ص 50
[5]المصدر نفسه ص 5

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة