مقالاتقضايا وجودية - مقالات

هل على النساء الاحتشام؟ أم على الرجال غض البصر؟

قال لي أحدهم أثناء حوارنا معًا: “هل تعلم لو أنّ النساء احتشمن والتزمن بما أمرهن به الشرع ، لما كان هذا حال الشباب من #اتّباع_الشهوات ولأمكن أيا منهن أن تسير في الشوارع بأمان تام و ما يحدث مسؤولية المرأة”

عبارة رنانة تحظى بالكثير من القبول في مجتمع راكد الثقافة، والضغوط الخارجية من الإعلام بالترغيب والترهيب والتقلبات السريعة في عالم الاقتصاد والتكنولوجيا، بجانب الضغوط الداخلية من دوافع الإنسان الغريزية ومن الانطباعات التي تكونت لديه من تجارب الحياة، لم تتركا له الكثير من المساحة ليتفكّر وينقد ويصل لفهم أصح وأدق. فأصبحت لديه كل القضايا في حقيقتها محسومة ونحن فقط الذين علينا أن نكثر من الفعل ونثابر ونصبر عليه. الكيف لم يعد محلا للنظر، فقط الكمّ هو القليل.

#المرأة في الركن الأحمر من الحَلَبة، أما الرجل فهو بطبيعة الحال في الركن الأزرق. والجولات متعاقبة، تارة يغير أنصار المرأة على الرجل المتسلط الذي يحظى بالكثير من الامتيازات دون مبرر صحيح نتيجة للعادات والتقاليد، وتارة يغير أنصار الرجل (أو بالأحرى أنصار العادات والتقاليد والاستقرار) على المرأة المتفلتة المتحررة التي لا تحترم ضوابط مجتمعها. وكالعادة في مباريات المصارعة، فإن الضرب والجراح تكون من نصيب المتصارعين، بينما يحصد المكاسب الصافية الرعاة والمعلنون، ويلتف المشجعون حول الحلبة لتشجيع بطلهم المفضل على أمل تحقيق انتصار بالوكالة –حيث أنهم ليسوا طرفا مباشرا في الصراع- في قضية رمزية تجعلهم يشعرون أن وجودهم مرتبط بمعنى أعظم. هكذا هي صناعة #الجدل بالنسبة للفكر، هي ساحة مناوشة تعمقّ الجراح وتزيد الفوارق وتبعد المتجادلين عن الحقيقة والحل أكثر.

إن الطريق إلى الحقيقة؛ طريق الحكمة والرشد، يمر عبر البرهان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قال حكيم[i] في موضوع حديثنا هذا: “عفوّا، تعف نساؤكم”، وفهمه الكثير بمعنى مختزل يطابق المثل الشائع وهو “كما تدين تدان[ii]“. ربما يتبادر لذهن القارئ أيضا أن هذه العبارة تصب في تحميل الرجل مسؤولية “تفلّت” المرأة. لكن هذه الفكرة أيضا متأثرة بالحلبة السابق ذكرها. ترتسم في المخيلة صورة لشخصين يقول أحدهم مستفزا للآخر: “ما انت لو راجل..” بينما الثاني ينظر له بمزيج من الغضب والشعور بالإهانة وقد احمرّ وجهه… لكن هل كل الفضائل مرتبطة بالرجل وسعيه؟!

إنني لو شئت أن أختصر الإجابة الشافية في موضوعنا هذا فلن أجد أوفى من تلك العبارة. عفّوا.. تعف نساؤكم

إنّ الذي يدفع ويحرك الرجل والمرأة كليهما هي أفكار وثقافة. فمن أين تأتي هذه الأفكار وكيف تكونت تلك الثقافة؟ في ذهن كل منا ما هي السعادة وما هو النجاح؟ وما هو الفقر والشقاء وسوء الحال؟

من فضلك كن صريحا مع نفسك… اسألها ما هي الحياة الجيّدة، اسألها عن طموحاتها وأحلامها وأهدافها، عن أكثر ما تخافه وتنفر منه. هناك من طموحه وأحلامه و مسؤولية أن يتزوج وينجب ويملك مسكنا وحياة لا يشعر فيها بالحرمان من شيء ويؤمن مستقبله ماليا، وهناك من يضيف على ذلك أيضا كماليات ورفاهية ويدا عليا.. والبعض يضفي على هذا أو ذاك لمسة روحانية/دينية غامضة الصلة بكل ما سبق.

ما اتّباع الشهوات إلا أن تكون كل تصورات الإنسان عن السعادة والقيمة وتحقيق الذات في الحياة متعلقة بالمال والقوة دون مسؤولية ، وكلما ضعف الوازع القيمي والضمير، وكلما سُخّر العقل خادما لشهوات الإنسان وأهدافه، كلما كانت هذه الثقافة مدمرة وخيمة العواقب على الأفراد والجماعات وحتى الدول. ساعتها نجد بعض من تحركهم هذه الثقافة يقولون: “إنّ العقل يقول…” و”إنّ الشرع يقول..”، وما قال العقل ولا الشرع، وإنما هذا محض اجتزاء وتبرير، فالذي يقول ويحكم فعلا هو ذلك الذي يقرر ابتداءً، وليس من يُستخدَم للتبرير. كما تقول القاعدة: تحكيم الشرع هو أن يقرر الشرع الأفعال، لا أن يبررها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذن فلا مفر من ضبط الموضع الذي تتشكل فيه التصورات والمفاهيم في البداية، العقل. ضبطه بالمنطق وعلم العلم. ثم استخدام المعلومات الثابتة من العقل والوحي والعلم التجريبي في بناء رؤية كلية للحياة ومعناها ودور كل منا فيها والمكاسب الحقيقية والخسائر الحقيقية، ونبني عليها سعينا في الحياة، فالعقل غير المنضبط لديه قدرة عجيبة على الجمع بين المتناقضات واعتقاد الخرافات والأوهام والمستحيلات.

بدون رؤية كلية تربط التعليمات بالغاية من وجودها، وبالمقاصد العظمى للوجود وللدين، ينفك الفعل عن المعنى والأثر. فنجد أنفسنا وقد أصبحنا آية في التناقض أضحوكة للغير. كذاك المهرج الذي يلبس ملابس مليئة بالرقع فاقعة اللون وحذائين مختلفي اللون كذلك ويتصرف بتلقائية كما لو كان فعله هو الطبيعي والمعتاد. نجد تلك المحجبة التي تلبس الضيق وتتفنن في مخاطبة غرائز الناس بمختلف الوسائل، ونجد ذلك الملتزم الذي يتصف بالمادية والانتهازية… إلخ

هناك بيت معبر جدًا للمتنبي يقول فيه:

وَإطراقُ طَرْفِ العَينِ لَيسَ بنافعٍ                       إذا كانَ طَرْفُ القلبِ ليسَ بمطرِقِ

غض البصر عن النظر لما ليس لك لن ينفع كثيرا إن لم يكن هناك ما يشغل بالك سوى ذلك الممنوع[iii]، ويمنع التعلق والتشتت (بسبب ما ليس لك) إذا كان قلبك متعلقا بما هو أعظم وأهم. وكذلك الحال مع عفة المرأة الظاهرة والباطنة، فالفارق كبير بين تلك التي ترتدي الحجاب على مضض وتشعر أنه يطفئ جمالها، وبين تلك التي ترى أنه يسمح لجمالها المعنوي بأن يظهر، وبين تلك التي ترتديه عُرفا أو خوفا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إصلاح الظاهر وإن تم على الوجه الأكمل لا يغني عن إصلاح الباطن ولا يستمر أو يصمد، وليست التعاليم غايات وإنما هي مجرّد وسائل تساعد الإنسان الذي يبحث عن تزكية نفسه والاقتراب من منبع الوجود، منبع كل جمال وجلال وكمال.

نعم. إنّ القضية أصلًا ودومًا هي إصلاح الباطن، وهي أمّ كل القضايا. يحصل ذلك بمعرفة القيّم والتعلّق به، ومعرفة ما يقرّب منه وما يبعد عنه، وما #العفة إلا ضبط العقل لقوة الشهوة، بإدراك القيّم والوضيع والترفّع عن الوضيع.

إذن؛ فلنرتقِ بثقافتنا عن ربط السعادة والفوز وتحقيق الذات بالمادة فقط، ونربطها بالمعنى والخُلق وتحمل كل شخص مسؤولية التي علية، ترتق معاملاتنا. إذا ارتقت ثقافة الكل، ارتقت تبعا لذلك ثقافة البعض المأخوذة من ثقافة الكل.

لا.. هي ليست “تعففن #يعفّ المجتمع”. إنها بكل بساطة واختصار: عفّوا.. تعفّ نساؤكم.

#بالعقل_نبدأ

اضغط على الاعلان لو أعجبك

[i]  حديث موضوع وجاءت العبارة في شعر للإمام الشافعي أيضا.

[ii] أيضا حديث يتراوح الحكم عليه بين “ضعيف” و”موضوع” بالمناسبة

[iii] من الفوائد الطريفة القليلة التي أختها مما يسمى بالتنمية البشرية هي فكرة أن العقل لا يفهم التعليمات التي تبدأ بنفي أو نهي، إذا قلت لشخص أن يغلق عينيه ولا يفكر في فيل برتقالي يطير فكل ما سيخطر في باله هو فيل برتقالي يطير. أما إن قلت له أن يفكر في سيارة أو شيء آخر، أو قام هو بذلك دون توجيه، فإنه حينها لن يرتسم في مخيلته فيل. إذن يجب أن يعرف الإنسان وجهته بشكل واضح قبل أن يعرف ما ينبغي أن يتجنبه حتى يصل لتلك الوجهة

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب

.

ياسر حسام عطا

مهندس كهرباء

مترجم حر

كاتب ومصحح لغوي

باحث في مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة

مقالات ذات صلة