لعله يكون سؤالًا سخيفًا، بالطبع نحن نفكر ولعله يكون سؤالا أكثر عمقا من أن يتم تناوله بهذه السطحية، شخصيًا لا أعتقد في الأولى وأميل إلى الثانية فقد دأب عديد المفكرين والفلاسفة في تحليل العقل الإنساني ومعرفة كيفية عمله فقد قال أرسطو بقوانين العقل الثلاثة وابتدع علم المنطق الذي نظم عملية التفكير الإنساني وحللها إلى قواعد لا يزال المفكرون يعتمدون عليها إلى اليوم، فأرجع أرسطو التفكير إلى العقل، والوصول إلى الحقيقة مرهون بإتباع القواعد المنطقية في التفكير، ثم أتى في الفلسفة الحديثة من أدعى بأن الإرادة الإنسانية تسبق المعرفة بمعنى أن إرادتنا الشخصية تخلق معرفتنا. بدأ هذا الاتجاه الفيلسوف الألماني كانط مرورا بشوبنهاور المتشائم وغيرهم الكثيرين وأدعى البعض الأخر أن الفلسفة وعملية التفكير عموما ما هي إلا عقلنة لرغباتنا.
هل نفكر حقا إذًن؟ .. هل نفكر تفكيرا موضوعيا بعيدا عن كل ظروفنا ورغباتنا وأهوائنا الشخصية، لقد ذهب كارل ماركس إلى أنّ الفلسفة والأخلاق والسياسة أو ما سماه بالبنية الفوقية تتشكل وتتلون بألوان البنية التحتية للمجتمع المختصرة في العوامل الاجتماعية والاقتصادية بالخصوص علاقات الإنتاج والتوزيع بين عناصر المجتمع فقد كان يقول بأن الدين مثلا هو من اختراع الأغنياء ليحافظوا على استكانة وضعف الفقراء فلا يطالبوا بحقوقهم، فلولا النظام الاجتماعي الحالي الرأسمالي في عهده لما كان الدين أصلا، هذا مثال بسيط على كيفية تفكير ماركس وإن كان المثال غير ملم كفاية بطريقته في التفكير ولكن أعتقد أنه يكفي حتى هذه اللحظة.
بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك مثل سبينوزا الذي كان يدعي بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يفكر خارج الصندوق أصلا بل كان يعتقد بأنه تحركنا وتوجهنا وتقسرنا في النهاية قوة خارجة عنا وهو في ذلك يقول “يظن الناس أنفسهم أحرارا لأنهم شاعرون بإرادتهم ورغباتهم، ولكنهم يجهلون الأسباب التي أفضت بهم إلى الإرادة والرغبة” ونشأ هذا النمط من التفكير في أحضان مبدأ الحتمية العلمية والفلسفية الذي كان سائدا في القرن السابع عشر كنتيجة ورد فعل طبيعي على تفسير نيوتن الآلي لهذا العالم لذلك يقول الحتمي أنه كلما زادت المعرفة بالظروف المحيطة بالإنسان كلما زادت نسبة توقع أفعاله وردود أفعاله لأن كل شيء يتحرك بشكل آلي كما قال نيوتن وهو بالطبع ما تغير في الفيزياء الحديثة.
إلى أي هذه النظريات أنتمي إذًن؟ .. لا أعتقد أنها جميعا دقيقة كفاية، فقد حاول الفلاسفة وضع الإنسان في معادلة واحدة ناجزة قابلة للفهم وأقول إنّ الإنسان أعقد من هذا كله فأنا أرى صلاحية منطق أرسطو واتجاه البعض إلى عقلنة رغباتهم في بعض الأحيان وأرى كما يرى ماركس أن العوامل الاقتصادية تدلي بدلوها على أراء كثير من ناس وأعتقد كما يعتقد سبينوزا أن البعض مسيّر في أفكاره مستسلم لما حوله من أطروحات تحدد له رغباته وأفكاره حتى وإن أدعى هو عكس ذلك، أرى أن الإنسان كائن معقد جدا عملية تفكيره تنقسم بالأساس إلى شقين: الشق الأول هو العوامل المنطقية والموضوعية في التفكير التي إذا ما أتقنها الإنسان وصل للحقيقة وعانقها عناق الأحبة وألتذ بصحبتها، والشق الأخر هو العوامل الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية المختلفة التي تحيط بالإنسان بل في بعض الأحيان تسيطر عليه سيطرة تامة .
و ما بين هذا وذاك يسعى الإنسان الواثق بنفسه وعقله للاجتهاد والسعي في طلب الحقائق كما هي مغلبا العوامل المنطقية فيه على العوامل المحيطة به ولكم رأيت في التاريخ من نماذج رائعة يحتذي بها كل طالب للحقيقة، فقد رأيت سقراط ينتفض عكس التيار ليقاوم عبثية الأخلاق في أثينا ويكون بمثابة ذبابة الخيل كما سماه البعض يلدغ جسد أثينا السميك ليوقظ هذا الجسد الناعس من سباته العميق، وقد لمحت ديكارت يحاول أن ينفض غبار الماضي عن كاهله ويشرع بتأسيس صرح معرفي ورياضي وفلسفي جديد عكس ما كان موجودا في عهده من التسليم الكامل لأبحاث أرسطو العلمية التي كان قد عفا عليها الزمان، وعرفت الغزالي يرفض الجاه ويرثى لحال نفسه ويرفض الشهرة والثروة لينتهي إلى حال الزهاد رغبه منه في البحث عن الحقيقة والتقرب لوجه الله جل جلاله .
هل نفكر إذًن؟ .. نعم نفكر إذا ما أردنا أن نفكر، نفكر إذا ما أخترنا أن نتبع العوامل المنطقية فينا على العوامل المحيطة بنا، فعندما قال برتراند راسل “ليس إرادة الإعتقاد هي ما نحتاج إليه بل الرغبة في البحث وهو شيء على النقيض تماما” كان محقا في رأيي؛ فإننا نحتاج إلى البحث والنظر وطرح الأسئلة ونكران النفس والخلوص من ظروفنا المحيطة الضيقة إلى رحابة التعقل والتدبر ورفع التناقض ولذة الحقيقة ونعيمها، يقولون إنّ الفلاسفة هم آخر من يعرفون الحقيقة نظرا لأنهم يطيلون النظر والتأمل وأقول أنهم هم من يعرفونها حقا، نحتاج إلى روح التأمل هذه وروح البحث والمعرفة فبها يصبح الإنسان إنسانا حقا في رأيي .