هل نحن مهددون بالانقراض؟!
نحن نعيش أوقاتًا استثنائية، فالمخاطر الكارثية الوجودية التي تهدد البشر خطيرة ومتعددة الأوجه، بما يؤكد أن النهاية الدرامية للبشرية أمرٌ ممكن ومتوقع! ليس أدل على ذلك من تقرير الكوكب الحي (Living Planet Report) الذي يصدر كل سنتين عن الصندوق العالمي للحياة البرية (World Wildlife Fund)، وهو بمثابة دراسة دورية شاملة لاتجاهات التنوع البيولوجي وصحة الكوكب المثقل بممارسات البشر.
يشير التقرير الصادر سنة 2014 إلى أن أعداد الثدييات والطيور والزواحف والبرمائيات والأسماك وغيرها قد انخفضت بنسبة 52% فيما بين عامي 1970 – 2010 بسبب الصيد العشوائي لهذه الأنواع وتدمير مواطنها. أما تقرير سنة 2022، الذي انطوى على دراسة لما يقرب من 32000 نوع، فيكشف عن انخفاض أعداد الأنواع الحية بنسبة 69% منذ سنة 1970، كما انخفض عدد سُكان المياه العذبة في المناطق الخاضعة للمراقبة بنسبة 83%. ويمثل فقدان الموائل الطبيعية والحواجز التي تعترض طريق الهجرة نحو نصف التهديدات التي تتعرض لها الأنواع الحية!
أضف إلى ذلك أن ثمة ما يقرب من مليون نوع من النباتات والحيوانات مهددة بالانقراض، وقد فقدنا بالفعل نصف الشعاب المُرجانية في العالم، ونفقد كل دقيقة غابات بحجم سبعة وعشرين ملعب كرة قدم، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى زيادة نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتفاقم حالات الجفاف، ومناخات محلية أكثر سخونة وجفافًا، والأهم من ذلك، انتشار المجاعات وموجات الهجرة على نطاقٍ هائل، ووضع الأمن الغذائي وسبل العيش لملايين البشر على حافة الخطر!
تعكس هذه الأرقام والإحصائيات علاقتنا المقطوعة مع الطبيعة، وفاجعة فقدان التنوع البيولوجي الذي يُمثل مخزونًا استراتيجيًا لحاجات البشر الضرورية، مثل الملابس والغذاء والأدوية، وهذه ليست مجرد مشكلات أو قضايا بيئية فقط، لكنها أيضًا قضايا اقتصادية وتنموية وأمنية واجتماعية وأخلاقية أيضًا، فالبشر جزءٌ من الطبيعة، وازدهارها يعني بالتبعية ازدهارهم، والعكس بالعكس.
قد يكون الانقراض البشري مادة كوابيس تُنذر بتدمير الحضارة الحديثة برُمتها، ولئن كانت الثقافة الشعبية تميل إلى التركيز فقط على أكثر الاحتمالات إثارة، مثل توقع اصطدام كويكب عملاق بالأرض –فيلم الخيال العلمي الأمريكي أرمجدون (Armageddon: 1998)–، أو توقع غزو فضائي للأرض –فيلم الخيال العلمي الأمريكي يوم الاستقلال (Independence Day: 1996)–، فإن التركيز على مثل هذه السيناريوهات قد يعني تجاهل أخطر التهديدات التي تُواجهنا في عالم اليوم، والتي يُمكن أن نفعل شيئًا للحد منها بتبيانها كونها خطرًا وجوديًا، وتكثيف التعاون الدولي لصياغة وتنفيذ التدابير المحتملة للحد من آثارها.
لقد تسببت الفيضانات المرتبطة بتغير المناخ خلال شهرٍ واحد؛ سبتمبر 2022، في نزوح أكثر من ثلاثين مليون شخص في باكستان، وفي الشهر ذاته راح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (Vladimir Putin من مواليد سنة 1952) يُهدد باستخدام ترسانته النووية على خلفية الحرب الروسية – الأوكرانية، هذا في الوقت الذي تنفد فيه مواردنا الحيوية التي تكفل لنا البقاء نوعًا مُهيمنًا، وتتصاعد مشكلة الأمن الغذائي في أجزاء كثيرة من العالم، ويموت الأطفال من الجوع وسوء التغذية.
على الرغم من التحذيرات الصادرة عن الهيئات الدولية المعنية بتغير المناخ، تستمر انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في التزايد، حتى أصبحنا نقترب من نقاط تحول خطيرة ولا رجعة فيها، بل لقد تلاشت كثرة من النظم البيئية التي يعتمد عليها التنوع البيولوجي، إذ تتدفق السموم الكيميائية التي يصنعها الإنسان إلى الهواء والغذاء والماء بمعدل ينذر بوضعٍ كارثي لا يمكن التحكم فيه، وأدت الثورة التكنولوجية إلى قدرات للذكاء الاصطناعي تتيح له الانقلاب على مبدعيه!
صحيح إن انقراض الإنسان ليس أمرًا حتميًا، وما زال من الممكن تغيير هذا الاحتمال، لكن المشكلة المركزية أنه لا توجد حكومة على وجه الأرض حتى الآن تتعامل بجدية مع تلك التهديدات الضخمة ذات الأبعاد المختلفة، وهو ما حدا بعددٍ من الأكاديميين إلى تدشين بعض الهيئات البحثية غير الهادفة للربح للنظر فيما أطلقوا عليه اسم “سيناريو يوم القيامة” (Doomsday scenario)، أو “الخطر الكارثي العالمي” (Global catastrophic risk).
من هذه الهيئات يبرز مجلس المستقبل البشري (Council for The Human Future)، الذي تم تأسيسه في أستراليا بعد مناقشات بين أعضاء هيئة التدريس الفخريين في الجامعة الوطنية الأسترالية (Australian National University)، حول المخاطر الرئيسة التي تُواجه البشرية، وسُبل التعامل معها وحلها. وقد قام المجلس أخيرًا برعاية عددٍ من الموائد المستديرة، ومؤتمر عالمي عبر الإنترنت للخبراء من الأكاديميين والمفكرين والسياسيين، لمناقشة عشرة تهديدات ضخمة تُواجه البشر، وهي:
تغير المناخ؛ الاحتباس الحراري وتغير المناخ بفعل ممارسات الإنسان، وقد أدرجت منظمة الصحة العالمية، وكذلك المنتدى الاقتصادي العالمي، تغير المناخ وآثاره أنه واحد من أكبر المخاطر التي تُهدد العالم منذ سنة 2019، ووُصفت ضرورة مواجهته بأنها مسألة حياة أو موت لعديد من المناطق!
نضوب الموارد الأساسية؛ تدهور الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة، مثل المياه والمعادن والوقود الأحفوري والأشجار والكائنات البحرية والأراضي الرطبة، إذ تؤدي إجراءات مثل إزالة الغابات –على سبيل المثال– إلى تدمير كميات ضخمة من الأشجار، مما يؤدي إلى تآكل التربة السطحية، ومن ثم تُصبح مناطقها غير مناسبة للنباتات والحيوانات، كذلك تؤدي ممارسات الصيد الجائرة إلى الحد من قدرة الأنواع على إعادة التوطين كل عام، وتُقدر البصمة البيئية (Ecological footprint)، أي مقياس الاستهلاك (Measure of consumption) لموارد الطبيعة من قبل البشر، بمرة ونصف من قدرة الأرض على توفير هذه الموارد باستدامة!
تدمير وانقراض الأنواع الأخرى؛ انهيار النظم البيئية وفقدان التنوع البيولوجي، وقد خلص أحدث تقييم شامل للأمم المتحدة إلى أن ما يصل إلى مليون نوع من النباتات والحيوانات معرضة الآن لخطر الانقراض، مما يشكل تهديدًا خطيرًا للنظم البيئية التي يعتمد عليها الناس في جميع أنحاء العالم من أجل بقائهم على قيد الحياة، فمن السهول العُشبية أو السافانا (Savannas) في إفريقيا إلى الغابات المطيرة في أمريكا الجنوبية، انخفض متوسط وفرة الحياة النباتية والحيوانية المحلية بنسبة عشرين في المائة أو أكثر، خاصة خلال القرن العشرين، مع تجاوز عدد السكان سبعة مليارات نسمة!
انتشار التسمم الكيميائي؛ التلوث الكيميائي لنظام الأرض، بما في ذلك الغلاف الجوي والمحيطات، إذ تُشكل المواد البلاستيكية خصوصًا مصدر قلقٍ كبير، إلى جانب 350 ألف مادة كيميائية صناعية، بما في ذلك المبيدات الحشرية والمركبات الصناعية والمضادات الحيوية. ويعمل التلوث الكيميائي على إفساد أنظمة الأرض من خلال إتلاف العمليات البيولوجية والفيزيائية التي تقوم عليها كل أشكال الحياة، فعلى سبيل المثال، تقضي مبيدات الآفات على عديد من الحشرات غير المستهدفة، والتي تُعد أساسية لجميع النظم البيئية، وبالتالي لتوفير الهواء النظيف والماء والغذاء. وتشير الدراسات إلى أن ثمة زيادة بمقدار خمسين ضعفًا في إنتاج المواد الكيميائية منذ سنة 1950، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم ثلاث مرات مرة أخرى بحلول عام 2050.
الانتشار غير المنضبط للتكنولوجيا بما في ذلك الذكاء الاصطناعي؛ ظهور تقنيات جديدة قوية وغير منضبطة، وتتراوح السيناريوهات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ما بين الأسلحة السيبرانية المتطورة التي يمكن أن تُدمر بيانات دولة بأكملها، إلى الخوارزميات المعقدة التي يمكن أن تتسبب عن غير قصد في انهيار سوق الأسهم، إلى الروبوتات والآلات الذكية القادرة على اتخاذ قرارات مستقلة معاكسة لقيم وأخلاقيات وحاجات البشر.
أسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الأسلحة النووية؛ الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، وهنا يتم التركيز على التوترات المتصاعدة بين القوى العالمية، إذ تجعلنا التقنيات الجديدة في مجال الأسلحة أقل أمانًا بسبب “تشابك” الأسلحة النووية والتقليدية، وخطر أن يساعد الذكاء الاصطناعي في إطلاق العنان لحرب نووية لا حدود لها!
أوبئة الأمراض الجديدة والمعروفة؛ الأوبئة من الأمراض الجديدة وغير القابلة للعلاج، على سبيل المثال، تقتل أمراض الجهاز التنفسي المرتبطة بالإنفلونزا الموسمية ما معدله 700 ألف شخص سنويًا، وتكلف الاقتصاد العالمي ما مقدراه 500 مليار دولار –391 مليار جنيه إسترليني– كل عام. وإذ إن التجمعات السكانية البشرية كثيفة الحركة والمتنقلة بتزايد يمكن أن تساعد على توليد سلالات جديدة للإنفلونزا تنتشر بسهولة، فإن ثمة مخاوف بشأن تفشي سُلالة في المستقبل تُشبه الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت أوروبا والعالم سنة 1918، وقتلت ما يصل إلى خمسين مليون شخص! ومع ذلك، يمكن لبرامج التطعيم واسعة النطاق وغيرها من تدابير الوقاية من الأمراض أن تساعد في تقليل هذا الخطر.
انعدام الأمن في الإمدادات الغذائية؛ تزايد انعدام الأمن الغذائي وتدهور جودة التغذية، وتشير تقديرات حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم إلى أن ما يقارب 690 مليون شخص كانوا يعانون الجوع في سنة 2019، أي بزيادة قدرها عشرة ملايين نسمة مقارنة بسنة 2018، وبنحو ستين مليون نسمة خلال فترة خمس سنوات. كما أن ارتفاع التكاليف وتراجع القدرة على تحملها يعني أيضًا أن مليارات الأشخاص غير قادرين على تناول أطعمة صحية أو مغذية. ويُحصى العدد الأكبر من الجياع في آسيا، في حين تسجل أسرع زيادة في إفريقيا. كما تشير التقديرات إلى أنّ جائحة كوفيد-19 قد دفعت بأكثر من 130 مليون شخص إضافي من جميع أنحاء العالم إلى دائرة الجوع المزمن بحلول نهاية سنة 2020!
الأعداد البشرية الزائدة؛ النمو السكاني البشري بما يتجاوز القدرة الاستيعابية للأرض، ومثار القلق هنا أنه مع تجاوز عدد سكان الأرض حاجز السبعة مليارات نسمة، فإنه حتى لو تبنى الجميع مستوى معيشيًا ماديًا منخفضًا نسبيًا مثل المستوى الموجود حاليًا في بعض الدول الإفريقية والآسيوية، فإنه لا يزال يدفع الأرض إلى نقطة الانهيار البيئي. ولسوء الحظ، يستهلك الشخص العادي على الأرض ما يزيد عن نسبة 50٪ فوق المستوى المستدام، وهو ما يُنذر بحالة متوقعة لا تستطيع فيها الأرض تجديد الموارد التي يستخدمها سكان العالم كل عام!
انتشار المعلومات الخاطئة وإنكار أن التهديدات خطيرة كما هي؛ الفشل المحلي والعالمي في فهم هذه المخاطر والتصرف وقائيًا بشأنها!
من جهة أخرى، يسلط أحدث تقرير لمجلس المستقبل البشري الضوء على فشل الحكومات في معالجة هذه التهديدات، ويرصد خاصة التفكير قصير المدى الذي سيطر –وما زال يُسيطر– بتزايد على السياسات المحلية والعالمية. لقد قوَّض هذا النمط من التفكير تقويضًا خطيرًا قدرتنا على تقليل مخاطر مثل تلك الناجمة عن تغير المناخ. كما يشير التقرير إلى أن التهديدات العشرة قد تكون قابلة للإدارة في هذه المرحلة من خلال حملة منسقة عالميًا، والتزام الحكومات الوطنية في كل مكان بمبدأ بقاء الإنسان، مؤكدًا على أنه من غير المعقول أن تعارض أية حكومة عن عمد بقاء جنسنا البشري، لكن لا يوجد دليل حتى الآن على مثل هذه التوجه العالمي!
لا شك أن نهاية الحضارة وانقراض الإنسان موضوعان بغيضان، قد لا يميل أحدٌ إلى مناقشتهما، ويُفضل كثيرٌ من الناس تجاهلهما في خضم متطلبات حياتهم اليومية، لكن تجاهل هذا الأمر لا ينفي أو يقلل من المخاطر التي نصطدم بها اصطدامًا مُفزعًا، التجاهل يترك البشرية في وضع تكون فيه أقل استعدادًا، ويُنذر بمستقبل أكثر خطورة! وباختصار، لا توجد طريقة أخرى للتعامل مع مثل هذه المشكلة المعقدة سوى مواجهتها، وفهمها جيدًا، ثم اتخاذ إجراءات حازمة ومتفق عليها على المستوى الدولي لمنعها!
مقالات ذات صلة:
هل من المعقول أن يكون أصل الإنسان قرد في البداية؟
هل لديك أي طلبات أخرى قبل النهاية؟
من أغرب الفرضيات العلمية .. فرضية جايا
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا