مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

هل فكرت يوماً أن تغير العالم ؟ .. معرفة متطلبات التغيير

كيف تغير العالم من حولك؟

مررت ذات يوم على صورة تصف أحد المواطنين الفلسطينيين وهو يركب عربة بدائية جداً مع أولاده، عائداً إلى بيته من إحدى مسيرات العودة الحرة التي يلتزم بإحيائها المقاومون ضد الاحتلال الإسرائيلي.

تنم العربة البدائية والصحراء التي تدهسها عجلات العربة، وملابس أطفاله الجالسين جانبه، على خشونة الحياة وبساطة معيشة هذا الرجل الذي ما لبث أن شارك في مناهضة العدو مع أولاده بكل شجاعة حتى عاد ليستكمل أداء أدواره في بيته وقريته.

لم يتوهم هذا الرجل أن دوره كبطل تلخص في مشاركة شجاعة أسبوعية لمقاومة العدو على الحدود، بل إنه يدرك أن البطولة الحقيقية في خوض تفصيلات الحياة جميعها ببسالة وتفانٍ، والتي قد يتخللها الكثير والكثير من اللحظات الصعبة والمملة أحياناً وغير المحببة للنفس التي تطمع في الحصول على الراحة.

—-

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحد المعلمين في إحدى المدارس علم بغياب طالب بسبب حادث، فتوصل لعنوان المشفى وذهب لزيارته، بعد فترة أفاق الولد واستعاد قدراً من طاقته الذهنية ولكن جسده يحتاج للمزيد من الوقت حتى يستعيد كامل حيويته ويعود للمدرسة، فاختار المعلم أن يذهب إلي الطالب من حين لآخر بشكل مستمر في المشفى ليشرح له ما فاته من دروس حتى لا يضيع الوقت ويرسب في السنة الدراسية.

الأمر يبدو بطولياً، يا لروعة هذا المعلم وتفانيه في أداء رسالته!

ولكن هل تفكر أحد في تفصيلات هذا الاختيار؟!
أن يصحو هذا المعلم صباحاً يذهب إلى عمله ليشرح للعشرات من الطلاب دروسهم ويواجه مشكلات العمل المحتملة اليومية، ثم ينتهي اليوم الدراسي وهو متعب فلا يبرح حتى يذهب إلى الطالب في المشفى عبر وسائل المواصلات المرهقة وازدحام الشوارع ليتابع معه شرح ما فاته رغم الصعوبات التي قد تواجهه كذلك مع الولد نفسه جراء إرهاق ذهنه وجسده من الحادث! عليه أيضاً ألا ينسى عائلته وواجباته نحوهم.

إن هذا الاختيار النبيل حتماً سيبهرنا، ويشير إلى إيمان صاحبه بمبدأ الرحمة بالضعفاء ومساعدتهم، ولكن لن تكتمل لدينا الصورة حتى نرى المعلم صامداً في تنفيذه وتحمل تبعات اختياره رغم مراراتها، وسيكون تحمله لكل تلك التفاصيل المريرة في سبيل تحقيق هدفه النبيل هو دلالة إيمانه بمبدئه.

—-

تقول الأم تريزا: “إن أردت أن تغير العالم ، فاذهب إلى بيتك وحب عائلتك”.

لا أعرف تحديداً ما هو مرادها من مقولتها تلك، ولكن بشيء من التفكر فيها وجدت أن المقولة تنبهنا لنقطة هامة جدا، أن الأهداف العظيمة لا تتم هكذا في لمح البصر، بل هي خطوات وراء خطوات.

فإن أردت أن تغير العالم فلن تجد عصا سحرية تحقق لك التغيير المنشود في لحظة، ولن تستطيع أن تصلح كل الأخطاء دون جهود تليق بمقام ما تحاوله تغييره، ولو صليت مئات الصلوات دون بذل مجهود ذهني وجسدي صحيح فلن تُغير العالم !

بل يمكنك أن تبدأ من الآن، بما تستطيع أن تُحدث فيه التغيير بالصورة المصغرة للعالم الكبير، عالمك أنت.

يمكنك أن تواجه تفصيلات يومك بالمزيد من الإيجابية والبذل الحقيقي لإصلاح ذاتك والتأثير فيمن حولك.

يمكنك أن تذهب لدائرتك الصغيرة، عائلتك، لتحبها وتصنع فيها العالم الذي تريده، وبهذا تكون فعلا ساهمت بما تستطيعه في تغيير العالم.

 

دوماً التفصيلات الصغيرة والخطوات الجزئية التي نواجهها في الواقع هي المحك، وهي التي تفصل بيننا وبين ما نؤمن من مبادئ، لأن المبادئ تظل صامتة إلى أن تجد لها مصداقاً في الواقع يحكي عنها ويرسمها.

إنها تلك التفصيلات التي تفضح البعض منا أمام نفسه، فها أنت أيها الإنسان الذي تردد إيمانك بالمبادئ! تعال هنا واحكِ لنا عنها في يومك واثبت لنا هذا الإيمان من خلال قدرتك على تجاوز تلك الخطوات والتفصيلات الصغيرة المملة والرتيبة أحياناً.

فمن يؤمن بمبدأ العدالة لا بد وأن يحققها في كل موقف يمر به مهما بدا بسيطاً ويتحمل عواقب ذلك ولو على نفسه، ومن يؤمن بالشرف والأمانة لا يقبل رشوة مهما كانت حاجته إليها ومهما ترتب على ذلك من معاناة في توفير متطلبات الحياة، ومن يؤمن بالمروءة وتحمل المسؤولية لا يتخلى عنها مهما واجه من مخاطر وعقبات.

ربما تريد عالماً أفضل تتحقق فيه مبادئك وقيمك، ولكن لن تستطيع أن تغير العالم طالما لم تعِ أن التغيير سيتطلب منك أن تنغمس في جزئيات تحقيقه المرهقة والصعبة.

لن تستطيع أن تغير العالم ما دمت غير قادر أن ترحم ذاك الموظف الأضعف منك رغم سذاجته الواضحة، أو أن تتحمل طفلك المزعج الذي يصمم أن يضع أصبعه في صحن طعامك، أو أن ترفض عرض الوظيفة ذات الراتب الباهظ لأنها في مصنع لإنتاج السجائر المضرة بصحة المستهلكين!

لن تستطيع أن تغير العالم ما دمت لم تتحمل الصبر على أداء الأعمال الصغيرة الثقيلة على النفس!

لن تستطيع أن تغير العالم طالما لم تدرك أن العيش في سبيل تحقيق المبادئ العليا -كالتغيير والإصلاح ومقاومة الفساد- قد يكون أصعب من الموت في سبيلها لأن الموت خيار واحد يتطلب قوة في لحظة واحدة، ولكن العيش في سبيلها يتطلب المئات والآلاف من اللحظات الصعبة المليئة بالتحديات الصغيرة والكبيرة والمستمرة طوال حياتك.

إن أردت أن تغير العالم ولا تدري كيف تبدأ، فابدأ بما تطوله يدك.

 

اقرأ أيضا:

لُب الزيتونة .. البحث عن السبب الجذري أفضل من معالجة الآثار الناتجة عنه

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة