هل حقا في الاختلاف رحمة – بين مركزية الاله ومركزية الانسان (الجزء الثاني)
“فى الاختلاف رحمة”
كثيرا ما نسمع هذه العبارة فى الأوساط الفكرية وحتى الدينية، وهى تشير إلى أن الاختلاف فى الرؤية والآراء والأفكار طبيعة إنسانية وأن الصراعات التى تنتشر بين الأفراد والمجتمعات ليست ناتجة عن الاختلاف ولكنها ناتجة عن عدم تقبلهم للاختلاف وتمسك كل منهم برأيه وانكار الرأى الآخر.
فهل الاختلاف في حقيقته رحمة و يجب قبوله ليستقر المجتمع وتنتهى الصراعات أم أن الاختلاف هو المصدر الأساسى للفرقة والصراعات بين الناس ومن ثم وجب إزالته ؟
مجتمع الاختلاف
لنتخيل معا أن هناك فريق لكرة القدم يتبنى الاتجاه الذى يرى بأن الاختلاف طبيعة إنسانية، فى البداية سنجد لكل عضو من أعضاء الفريق غايته الخاصه من التواجد فى الفريق؛ فالأول هدفه المال والثانى هدفه الشهرة والثالث هدفه تحقيق رقما قياسيا من الأهداف والرابع هدفه الاستمتاع بالمباراة بغض النظر عن النتائج وهكذا.
وهذا يعنى أن معنى الفوز بالنسبة لكل عضو من أعضاء الفريق مختلفا عن الآخر؛ فالأول إذا استطاع جني مزيد من الأموال ولو على حساب انتمائه لفريقه أو حتى على حساب خسارة الفريق لن يكترث، والثانى إذا استطاع عمل بعض الحركات البهلوانية التى تُسلط عليه الضوء حتى ولو كانت هذه الحركات سببا فى إهدار الفرصة الأخيرة لصعود فريقه للمربع الذهبى لن يهتم فغايته قد تحققت،
والثالث لن يهتم بالفوز بقدر ما سيهمه أن يحرز هو الأهداف حتى يحقق رقمه القياسى بالتالى لن يمرر الكرة لأحد، ولن يشغله أى شىء في المباراة إلا تحقيق الأهداف، والرابع لن تشغله نتيجة المباراة على الإطلاق؛ بل كل ما سيشغله مدى الإثارة والمتعة التى سيجنيها من اللعب. فاختلاف الغاية سيؤدى لاختلاف سلوك الأفراد داخل الفريق.
لن يتوقف الأمر بل سيكون لكل عضو رؤيته الخاصة لإدارة المباراة و للتشكيل الأمثل لتحقيق الهدف الذى هو شخصى كما أوضحنا، كما أن لكل عضو مرجعيته الخاصة لتحديد الصواب والخطأ، و هذا يعنى أنه لا يمكن لأى عضو إنكار سلوك أو رأى لباقى أعضاء الفريق،
وعندما تحدث مشكلة أثناء المباراة أو بين أعضاء الفريق لن تكون هناك مرجعية ثابتة لتحديد من المخطىء أو ما هو جزاؤه؛ فلكل رأيه ولا يمكن إنكار أى رأي كان وفى هذه الحالة يكون الدور الأساسى للمدرب أن يتقبل كافة الآراء ويتيح الفرصة للجميع ليشارك؛ لأنه بالطبع يؤمن بأن الاختلاف طبيعة إنسانية!
مركزية الإنسان وتأصيل الاختلاف
الرؤية التى تعمل على تأصيل الاختلاف بين الناس هى نتاج الرؤية التى تؤمن بمركزية “الإنسان” لا التى تؤمن بمركزية “الإله” لأن الرؤية الأولى تجعل الإنسان هو المعيار وبالتالى؛ فلكل إنسان غايته ولكل إنسان رؤيته الخاصة للصواب والخطأ،
أما الرؤية الإلٰهية؛ فعلى النقيض ترى أن هناك غاية واحدة خُلق من أجلها الجميع وأن هناك معايير ثابتة لتحقيق تلك الغاية تحدد الصواب والخطأ فى مختلف جوانب الحياة وهى منفصلة تماما عن الأفراد.
قد تبدو الرؤية الأولى أكثر تسامحا وقبولا للآخر ولكن فى الحقيقة هذه الرؤية تعتبر مصدر تشتت وتهديد للاجتماع الإنسانى.. لماذا؟
الاختلاف في الرؤية والتشتت المجتمعي
لأنه لا يوجد اجتماع إلا باتفاق ولا يوجد اتفاق إلا باتحاد الغاية ووحدة المرجعية فى تحديد الصواب والخطأ، هذا وإلا ذهب كل منا فى اتجاه واستحال علينا إثابة مصيب ومعاقبة مخطىء ومعرفة الصادق من المنافق، وهو الأمر الحاصل أمامنا، فكثيرا من الناس يشعر بالتيه والتخبط على المستوى الفكرى والعقائدى فلا يجدوا حولهم ممن أتيحت لهم الفرصة لتعليمهم إلا وأوقعوهم في تناقض بيّن،
فمثلا تبدأ إحدى المحاضرات بالحديث عن أهمية التعليم والتربية الواعية فى إزالة الوهم والخرافة من المجتمع وعندما يسأل أحد الحضور عن معنى الوعي وكيفية تحقيقه تأتى الإجابة صاعقة ” لا يوجد معنى مطلق للوعى وآلية تحقيقه تختلف من شخص لآخر!”
ولا يذهب الناس لمن يفتيهم فى شئون حياتهم وقضاياهم المصيرية إلا ووجدوا أنفسهم فى بحر من “اختلف العلماء” و”هناك كثيرًا من الآراء حول هذه القضية” و كأننا نرسخ فى النفوس البحث عن الحق و إزالة الأوهام وفى نفس اللحظة نرسخ بداخلهم النسبية وأن الحق لا يمكن الإحاطه به ولا تطبيقه لأن الأمر يختلف من شخص لآخر!
فلماذا إذن نجد كثيرا ممن ينتمون إلى الرؤية الإلٰهية يرون فى الاختلاف رحمة؟ وما هى الطريقة المثلى للتعامل مع الاختلاف ؟
مركزية الإله وتأصيل الوحدة
قد أوضحنا منذ قليل أن المنتمين للرؤية الإلٰهية لديهم غاية واحدة ومرجعية فكرية وأخلاقية واحدة وغايتهم الأساسية الوحدة ونبذ الفرقة، فمن أين سيأتى الاختلاف فيما بينهم؟
السبيل الوحيد لحدوث الاختلاف بين من ينتمون للرؤية اللإلٰهية هو الابتعاد عن مركزية الإله إما لجهل أو لمصلحة، أما الجهل فذلك لأن من ينادى بتأصيل الخلاف وينتمى فى نفس الوقت إلى الرؤية الإلٰهية لم يعِ جيدا أنه من التناقض الدعوة للوحدة وتأصيل الاختلاف فى نفس الوقت،
كما أنه يجهل الفرق بين الأمور المطلقة التى هى حق فى ذاتها حتى ولو لم يجتمع عليها الكل بإرادتهم والأمور النسبية التى تختلف من شخص لآخر كالاختلاف فى الميول والأذواق والقدرات، أما المصلحة فهى انقياد خوف أو طمع؛ فصاحب المصلحة في هذه الحالة يساعده تأصيل الاختلاف بين الناس على تحقيق مصالحه.
أما فيما يخص قبول الآخر ومعاملته معاملة حسنه فهذه مسألة يحدث فيها خلط على كثير من الناس، فالسائد أن الاختلاف مع الآخرين فى الدين أو الفكر يؤدى للصراع والسب والقتل بغير وجه حق وما إلى ذلك من أمور ظالمة ترفضها النفس السوية، ولكن من قال أن الاختلاف فى الاتجاهات الفكرية والدينية يوجب عدم احترام الآخر أو قبوله أو سلب حقوقه الإنسانية!
خلاصة القول؛
1- الاختلاف على المستوى الفكري والعقائدي ممكن الحدوث لكنه ليس رحمة؛ كما أن الاجتماع على المستوى الفكري والعقائدي أيضا ممكن طالما كانت غايتنا واحدة وهى معرفة الحق وهو المطلوب لتتم العدالة الاجتماعية وتزول الصراعات.
2- الاعتراف بالحق لا يعنى سلب حقوق الآخر وعلى العاقل حتى ولو اختلف مع الجميع أن يحترم الحقوق الإنسانية التى فُطرت عليها البشرية كحرية الاختيار والحق فى الحياة وغير ذلك من الحقوق.
3- الاختلاف فى القدرات العقلية والنفسية والظروف التربوية والإجتماعية أمر لا يمكن إنكاره، وهذا هو الاختلاف الواجب قبوله وتأصيله؛ فيصبح لكل إنسان مجال تعليمه الخاص واختباره الخاص ومهامه الخاصة وثوابه وعقابه الخاص، ولأهمية هذا الأمر سنفرد له مقالا خاصا إن شاء الله لتتضح كيفية التعامل مع الأمور النسبية التى تختلف من شخص لآخر فى طول القواعد المطلقة.
4- إن اختلاف أهل الفقه في القضايا الحياتيه لا يعني أن جميعهم على صواب؛ بل إنه من العقلانية أن يكون فى الحالة الواحدة حكم واحد يؤدى للأثر المطلوب وهو الحكم الذى صدر من النبي المعصوم، وأما فيما يخص الفتاوى الحديثه المعاصرة لزماننا فهي ظنية تقبل الصحة والخطأ ونأخذ بها إبراءً للذمة.
5- حتى وإن حدث واختلف العلماء فى الأمور الفرعية وأخذ كل منا ما يرتاح اليه إبراءً للذمة و ليس تأصيلا للاختلاف، فإنه لا يمكن قبول الاختلاف في الأمور الكلية والمعيارية والقيمية وحقيقة الإله والنبوة والميعاد والعدل الإلهي.