مقالاتفن وأدب - مقالات

هل تأملت في حياتك نهرا؟!

في مقالٍ له تحت عنوان: «هل تأملت في حياتك نهرا؟»، يورد الدكتور «أحمد خالد توفيق» قصة معبرة للروائي الفرنسي «أندريه موروا» André Maurois. القصة تحكي عن فنان تافه مغمور لا يبيع لوحة واحدة من لوحاته. وذات يوم زاره صحافي من أصدقائه فرقَّ لحاله، واقترح عليه أن يدعي أنه ابتكر أسلوبا جديدا في الفن يسميه مثلا «الطريقة النفسية التحليلية»، ودار بينهما الحوار التالي:

  • هل يمكنك أن ترسم لي بعض اللوحات التي تحوي كلاما فارغا؟ مثلا، امرأة جميلة وحولها أوراق مالية كناية عن حب المرأة للثراء، أو رجلا بدينا متأنقا حوله دموع ودم كناية عن أغنياء الحرب.. هل تستطيع ذلك؟
  • بالتأكيد.
  • إذن، نفذ عشر لوحات بهذه الطريقة وسوف أكتب أنا مقالا عن طريقتك العبقرية وعن معرضك المقبل.

أنجز الفنان هذا الكلام الفارغ في ليلة واحدة، وجاء يوم المعرض الذي احتشدت باريس كلها لتراه. كان هناك حشد من النقاد الفنيين، فقال الصحافي للفنان: «لا تخف، كلما سألك أحدهم عن معنى (الطريقة النفسية التحليلية) اكتف بأن تنفث دخان الغليون في وجهه، وقل: هل تأملت في حياتك نهرا؟ سوف يتظاهرون بأنهم فهموا»!

نفَّذ الفنان التعليمات، وكلما التف حوله نقاد أو صحافيون وسألوه عن مغزى أسلوبه، نفث الدخان في وجوههم وقال: “هل تأملتم في حياتكم نهرا؟” فيصيحون في انبهار: “هذا صحيح.. يا له من عبقري!”.

الخداع وكيفية تقبلنا له

انتهى المعرض بعدما بيعت اللوحات بثمن باهظ، وصار الفنان أهم فنان في باريس، وجاءه الصحافي ضاحكا بعد رحيل الناس وقال: “هل رأيت كيف خدعنا هؤلاء القوم بلوحاتك عديمة القيمة؟!” نظر له الفنان في حزم وقال: “هل أفهم من هذا أنك تنتقد طريقتي النفسية التحليلية؟” صاح الصحافي في غيظ: “هلُم.. لا تصدق نفسك؛ أنت تعرف أنه لا يوجد شيء اسمه الطريقة النفسية التحليلية!”، هنا نظر له الفنان طويلا ثم نفث دخان الغليون في وجهه وقال: “هل تأملت في حياتك نهرا؟!”.

القصة تُعبر باختصار عن كثير ممن تراهم حولك الآن، بل ومنذ سنوات طويلة، أشباه فنانين ومثقفين ودعاة ومسؤولين: رويبضات يعتلون منابر الكلام والفعل والتوجيه، يتم تلميعهم جيدا، إعلاميا أو حكوميا أو مجتمعيا، فيصفق الناس، ويهلل الجهلاء والمنتفعون!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المصيبة أنهم يصدقون أنفسهم بعد حين، يتوهمون أنهم قد امتلكوا نواصي الحقيقة، وأنهم العباقرة وغيرهم أغبياء.. تُراجع أحدهم فينفث في وجهك دخان جهله ولسان حاله يقول: “هل تأملت في حياتك نهرا؟!”، قَدرُك أن تلتقيهم، أن تُعتقل داخل دائرة تفاهاتهم، أن تُحاصر باللا معقول، وتُعتصر بعبثيتهم روحا وجسدا، أن تُجبر على التعايش مع أفكارهم وصخبهم وأطماعهم، وأن يستهلكونك حتى آخر قطرة وعي، وآخر نبضة صبر، وآخر خيط يرسم معالم هويتك! إنه قدرُك، لا بد أن تعيشه، فلا يُجدي معه الفرار.. وتنفس إن استطعت بقلمك، حين تخلو إليه ويخلو إليك!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

همج رعاع ينعقون مع كل ناعق!

حواري مع العربي المهزوم

هل الإعلام وسيلة لتشكيل الرأي العام أم وسيلة مؤدلجة لصناعة القيم؟

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية