مقالات

هل التنمية المنشودة تنمية اقتصادية أم اجتماعية؟ أم تنمية تشمل كل جوانب الحياة؟ (الجزء الثالث)

كنا قد طرحنا في مقالات سابقة أن مصطلح “التنمية” قد استحدث منه العديد من المصطلحات ذات الصلة، وكان من بينها مصطلح “التنمية البشرية” Human Development، الذي وضعه البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 1990 وعرفه على أنه: “تنمية الناس، من أجل الناس، بواسطة الناس”، ليتطور ويتوسع المفهوم فيما بعد، وتحديدا عام 1993 ليقصد به: “عملية تهدف إلى زيادة الخيارات المتاحة أمام الناس”، وقد وُضع دليل يمكن من خلاله قياس التنمية البشرية في أي مجتمع، يعرف باسم “دليل التنمية البشرية” أو “الرقم القياسي للتنمية البشرية”، وهو مؤشر مركب من ثلاثة عناصر هي: طول الأجل، المعرفة، والدخل.

وقد أكدنا أنه من حيث المبدأ أن هذه الخيارات المتاحة أمام الناس بلا حدود، وتتغير بمرور الوقت، أما من حيث التطبيق، فإن هذه الخيارات الأساسية تتركز في جميع مستويات التنمية في ثلاثة اختيارات هي:

  • أن يحيا الناس حياة طويلة خالية من العلل.
  • أن يكتسبوا المعرفة.
  • أن يحصلوا على الموارد اللازمة لتحقيق مستوى حياة كريمة.

وأكدنا أيضا أنه إذا لم تكن هذه الخيارات الأساسية مكفولة ومتاحة، فإن كثيرا من الفرص الأخرى ستظل بعيدة المنال وكذلك يتعذر الحصول عليها.

وفي هذه المقالة سنستعرض –استكمالا – لبعض المصطلحات الأخرى التي انبثقت من مصطلح “التنمية”، والتي تخدم هدف التنمية وتحقق مسعاها، غير أن هذا العرض غرضه -لا شك – تسهيل الإجابة على السؤال الأساسي المطروح، والذي مفاده: هل التنمية المنشودة تنمية اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية أم ثقافية؟ أم تنمية تشمل كل جوانب الحياة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

التنمية بالمشاركة

واستكمالا فقد ظهر مفهوم التنمية بالمشاركة “Participatory Development”، و الذي اعتمد على أن المشاركة هي جوهر التنمية، وتغيير اتجاه وفكر المواطن من موقعه التقليدي كمجرد متلقٍ ومستفيد من خدمات التنمية التي تقدم إليه، ليتحول إلى صانع حقيقي لهذه التنمية، بل ومسئول مباشر عن حمايتها والدفاع عن استمراريتها وتواصلها المستقبلي، من خلال مشاركته الإيجابية الفعالة على المستويين الفردي والجماعي في تخطيط وتنفيذ وتقويم مشروعات التنمية.

وبمناسبة الحديث عن مصطلح “المشاركة في التنمية”، فلا شك اليوم أنه أصبح من الصعب أن يعقد أي منتدى تنمويا سواء كان عالميا أو محليا، دون أن يتحدث عن مشاركة السكان في التنمية؛ باعتبارها سمة أساسية في أولى خطوات التنمية، بل يمكن القول إذا صح التعبير أن المشاركة أصبحت عقيدة التنمية.

وليس ذلك بغريب، فمع ازدياد التطلعات الشعبية لمعظم الدول النامية، ومن بينهم مصر، وارتفاع مستوى الطموح والمطالب والآمال التي أصبحت تفوق بكثير مقدرة الحكومات عن تلبية كل الاحتياجات، وتنفيذ وتمويل كل المشروعات التعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية في كل المدن والقرى،

أصبح هناك قناعة تامة بين المخططين والسياسيين والتنفيذيين بأن جهد الحكومة بمفرده لا يمكن أن يحقق عملية التنمية بكل أهدافها بفاعلية وكفاءة دون مشاركة وجهد المواطنين المعنيين بالتنمية، سواء كانوا في المجتمع المحلي الصغير، أو المجتمع الكلي الكبير، وبدءا من صياغة الأهداف المجتمعية حتى تقييمها وتلمس نتائجها.

المشاركة الشعبية

ومن هنا تأتي نظرية المشاركة الشعبية Popular Participation ليس كحل لمشكلة عجز الدول عن التمويل فقط، ولكن كفلسفة جديدة تمثل أساسا من أسس مجتمعات الدول الآخذة في النمو، فلسفة اجتماعية متكاملة بكل عناصرها، باعتبارها أسلوب حياة، أي لا يجوز اللجوء إليه يوما والتراجع عنه يوما آخر، فالمشاركة الشعبية تعتبر أسلوبا اجتماعيا تتحقق من خلاله مزايا عديدة للفرد وللمجتمع في شكل من أشكال التنمية، ومادامت قد ارتبطت بالتنمية فإنها لا شك سترتبط بالتخطيط لهذه التنمية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهكذا يتضح لنا كما سبق أن “التنمية” شاملة لكل نواحي الحياة، هدفها هو الارتقاء بالإنسان وحياته وجعله يعيش حياة كريمة، حتى أن هناك فريقا من الكتّاب الغربيين المعاصرين وعلي رأسهم  جان بيتريس “Jan N. Pieterse”، أشار إلى أن مصطلح التنمية الشاملة هو مرادف لكلمة التغريب Development = Westernization”” حيث أشار حرفيا إلى:

Development has been and still is The Westernization of The World

مشيرا بهذا المعنى إلى أن التنمية الشاملة في جوهرها تهدف إلى جعل العالم كله يسير على نهج الدول الغربية في شتى مجالات الحياة –مع ضرورة غربلة الطالح منها والذي قد يتنافى مع قيم وعادات مجتمعاتنا العربية –  تحقيقا للرقي والتقدم، وعلى أساس أن “التنمية” إنسانية الهدف تسعى إلى إشباع احتياجات المجتمع وتحقيق آماله، كما أنها مجتمعية أي أنها تشمل المجتمع بكل ما في باطن الأرض من كنوز ومعادن وموارد، وما على الأرض من زرع وحيوان وجماد ومياه، والاستفادة منه بأقصى قدر مستطاع وبأقل جهد وتكلفة، بالقدر الذي يؤدي إلى خدمة الإنسان وتحسين أوضاع حياته، وتوفير الفرص المناسبة التي تضمن مساهمة ومشاركة الأفراد في شتى مجالات التنمية سالفة الذكر، لأن المشاركة هي المفتاح الحقيقي لضمان نجاحها واستمراريتها .

كيف تصبح التنمية بدون التخطيط؟

الأمر الذي يؤكد على أن التنمية بهذا الشكل، وبتعدد مفاهيمها الفرعية، لا يمكن أن نتصور تحقيقها بفعل التطور التلقائي، أو بفعل العوامل الطبيعية، ولكن يمكن تحقيقها باستخدام  التخطيط  “Planning”، فإذا كانت التنمية الشاملة هي الغاية والهدف، فإن التخطيط هو الوسيلة اللازمة لتحقيق تلك الغاية؛ فالتنمية في جوهرها تعني ذلك “التغيير المخطط، بما يتماشى مع أهداف وتطلعات المجتمع”، كما يميز التخطيط بين التغيير المقصود وغير المقصود، والتغيير الواعي وغير الواعي، ويؤكد على بعد التكامل بين المجالات التنموية سالفة الذكر سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية.

غير أن التنمية بدون “التخطيط” لا تعدو أن تكون إلا مجموعة من البرامج والمشروعات العارضة، التي لا ترابط بينها ولا تنسيق، ولا يمكن أن تتكامل نحو تحقيق الأهداف المرغوبة والمنشودة، في حين يحقق التخطيط كأسلوب علمي الأهداف التنموية التي تم تحديدها، ويسمح طبقا للمعايير المدروسة بالاختيار بين البرامج والمشروعات الضرورية وتحديد المواءمة بينهما، لذلك يمكن القول أن التنمية بدون التخطيط لا يمكن أن تحقق أفضل النتائج في العائد القومي، إذ تصبح تنمية عشوائية بطبيعتها ولا تخدم إلا فئة بعينها في المجتمع، ومن ثم تصبح قاصرة عن تحقيق العدالة الاجتماعية لجمهور المنتفعين من أبناء المجتمع.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذن –وتلخيصا – فالتنمية الشاملة المقصودة هي التنمية “المخططة”، التي تشمل كل جوانب الحياة وعلى اختلاف صورها وأشكالها، فتُحدِث فيها تغييرات كيفية وعميقة وشاملة، وهذا ما أطلق علية حديثا –كما سبق وأشرنا –  “الرؤية السوسيولوجية للتنمية” والتي تقتضي الخروج بالتنمية من البعد الاقتصادي الكمي إلى آفاق أوسع وأرحب تتصل بنوعية الحياة الكلية والتوازن النسبي بين “الكم والكيف”، أو ما يعرف بثورة الآمال المجتمعية التنموية الكبيرة التي اجتاحت العالم منذ منتصف عقد الستينيات، وإخراج قضية التنمية من الدائرة الضيقة للبعد الاقتصادي، وزيادة معدل الدخل الفردي والقومي، إلى ما يعرف بالتنمية الشاملة المخططة المتكاملة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وصحيا وعمرانيا، تجري في قنوات البناء الاجتماعي مجرى الدم في عروق الإنسان.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال 

التضخم – أسبابه وآثاره على المجتمع والإنتاج والسياسة النقدية والمالية ومدى تأثيره على التنمية

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. أحمد محيي خلف

مدرس التخطيط الاجتماعي والتنمية – قسم علم الاجتماع – كلية الآداب – جامعة المنيا

مقالات ذات صلة