مقالات

هل الاستعمار ذكر أم أنثى؟!

في واحدة من طرائفه الناقدة والساخرة للواقع، يورد المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي تشبيها عجيبا للوضع الذي وصل إليه حال المسلمين وانقسامهم، فقد ذكر أن أهل بيزنطة في عهد تدهور حضارتهم، كانوا يتجادلون في جنس الملائكة: هل هم ذكور أم إناث؟!

ونحن _يقصد العرب والمسلمين_ إذا ما تورطنا في الميتافيزيقا يمكننا أن نتجادل في جنس الاستعمار: هل هو ذكر أم أنثى؟ ولو أن هذا قد وقع، فإنني على يقين _والكلام لمالك بن نبي_ من أن الاستعمار سوف يرينا عورته كذكر مرة، ويرينا عورته كأنثى مرة أخرى، ثم يتركنا في غينا هائمين.

جدال عقيم

وربما تنشأ عندنا (مدرستان)، ويظهر في هذا الأمر (مذهبان)، ولا شك فإن الاستعمار حينئذ سوف يبذل كل ما في وسعه لبث روح الجدال بين الفريقين، حتى تنصرف كل الطاقات العقلية في العالم الإسلامي إلى هذا الجدال العقيم. ثم عندما يؤول الجدال إلى مشاجرة، فسوف يسعى الاستعمار بعد ذلك حتى يقر في أذهان كلا الطائفتين أن كل من لا يشارك في هذا الجدال وتلك المشاجرة خائن، وأن كل من لا يقول إن الاستعمار أنثى أو ذكر يصبح في نظر المذهبين مرتدا خائنا.

هكذا هو الحال، فما أكثر ما تشهد ساحتنا الثقافية اشتباكات تزيد حدتها أو تنقص، مرة بين التراث وأهله من جهة وبين وكلاء الغرب وعشاق العلمنة والحداثة من جهة أخرى، ومرة بين دعاة القديم ودعاة الجديد، وأخرى بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقدم والتخلف، وبين المدنية والبدوية.. وغيرها من الثنائيات التي تقوم على أساسها سوق هذه التراشقات والتلاسنات والاشتباكات.

ما يسعى إليه الغرب

إن الثقافة الغربية تصارع وبصورة حاسمة، وقد كسبت محاربين (مرتزقة) من بني قومنا هم أكثر حماسا لثقافة الغرب من الغرب نفسه، ذلك أن الدَّعيَّ يُظهر الحماس والتعصب بحيث يتجاوز الغربي في حماسه وتطلعاته!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وما نشاهده ونعايشه من استعدادات البعض (دولا وأفرادا) للاحتفال بمناسبات لها علاقة بالحضارة الغربية يفوق أحيانا استعدادات الغرب أنفسهم، بل البعض تجاوز ذلك إلى مرحلة إرسال واستقبال التهاني والتبريكات، وليت أمر إرسال التهاني والتبريكات كان ممن يملك قراره، إذًا لهان الأمر، ولكن الأمر واضح أنها تهنئة من خادم لسيده ومن تابع لمولاه، وفي هذا ما فيه من المذلة.

وكما لا يجادل أحد بأن الغرب يضغط بكل قوة لجعل ثقافته وقيمه وتوجهاته سائدة في العالم كله، ويساعده ويشجعه في ذلك مجموعة من الوكلاء، قد يبالغون في الحماس أكثر من الغرب، كما أسلفنا سابقا، وهم يجدون في الغرب راعيا وحاميا ورافعا لهم، ولذا فهناك تخادم بينهم، “اخدمني كي أتقدم وسوف أخدمك عندما أتمكن”.

التبعية المهينة

لقد اشتبك المسلمون مع الغرب في أكثر من (2700) معركة كبرى، كما يذكر (الدكتور نعمان السامرائي)، وفتحوا إسبانيا وأجزاء كبيرة من شرق أوروبا، وإذا كنا نسينا ذلك التاريخ فالغرب يتذكره، وهناك من يذكِّر به باستمرار.

لقد صار العالِم عندنا _كحالة من حالات التبعية المهينة_ هو من يعرف التراث الغربي، ويجادل بل ويؤكد أن العلم هو المعلومات الوافدة من الغرب، وأن الإنسان لا يكون مُجدِدا إلا إذا تعلم الوسائل الغربية، “لقد صار العلم نقلا، والعالِم مترجما، والمفكر عارضا بضاعة الغير”، وتلك لعمري هي قاصمة الظهر.

وحتى أصبح الباحث من هؤلاء العاشقين لكل ما هو غربي يستبطن العداء وإن كان يتظاهر بالحياد، حيث قامت للنفاق سوق رائجة، يحاول من خلالها (الشرقي) الكاتب والباحث أن يرضى عنه الغرب، ويتشرف بلقب معتدل أو متنوِّر أو غير أصولي عندما يصفوه بها، أما من يكتب السباب والشتائم عن دينه وبني قومه، فيكرّم أكبر تكريم من قبل أسياده في الغرب!

هل للأمة أن تستفيق؟!

إن هؤلاء الليبراليين _وخاصة من يقومون بهذه الأدوار_ يكثر تركزهم في الجامعات والمنظمات الأهلية وفي أغلب الهيئات التي لها علاقة بالغرب، وهم في العادة يجيدون اللغة الإنجليزية والفرنسية، وهم مرتاحون للغربيين، وكذلك الغرب يرتاح لهم، إنهم يتقدمون في السن، ويعيشون في عزلة أكبر، وأعدادهم في تناقص، وتأييدهم ضئيل بين السكان، أما شرعيتهم فأقل _في نظر مواطنيهم_ وقد صاروا يمثلون أفكار الماضي الفاشلة بدلا من آمال المستقبل الجريئة، إنهم يخسرون المعركة بسرعة، ولا يفوزون بقلوب الناس ولا بعقولهم، حسب وجهة نظر الدكتور السامرائي.

لقد حاولت القوى الاستعمارية من خلال المدارس والجامعات التابعة لها تدريب المستعمَرين _بفتح الميم_ على القيام بالأدوار التي تناسب المستعمِر _بكسر الميم، وقد حققوا نتائج نرى وطأة آثارها في معظم حكامنا، وفي الكثير من نخبنا الثقافية والفكرية.

والحق أننا لم ندرس بعدُ الاستعمارَ دراسة علمية، كما درَسَنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر، وفق رؤية المفكر مالك بن نبي. وقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين دورا بطوليا فقط. ومن طبيعة هذا الدور (البطولي) أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد.

إن القضية عندنا، كما يقول مالك بن نبي أيضا، منوطة أولا “بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته”، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا فلا رجاء في استقلال ولا أمل في حرية مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: ((أَخْرِجُوا الْمُسْتَعْمِرَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِكُمْ)). فهل آن للأمة أن تقوم بذلك؟!

اقرأ أيضا:

الاستعمار الحديث

الاستعمار الفرنسي ومعركة الوعي في إفريقيا

الاغتراب والهوية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.