مقالات

هل الإعلام وسيلة لتشكيل الرأي العام أم وسيلة مؤدلجة لصناعة القيم؟ (الجزء الأول)

لا أحد ينكر أن “الإعلام” Media أصبح السمة البارزة لهذا العصر الذي نعيش فيه، خاصة السنوات الثلاثين الأخيرة من هذا القرن، حيث قوي الإعلام واشتدت سطوته، وأضحى قوة جبارة تؤثر تأثيرا مباشرا في الأحداث، بل وتستطيع من خلال هذا التأثير أن تهز كيان أي مؤسسة، بل يمكن القول -بلا أدنى مبالغة- أي دولة هزا عنيفا، قد يسقط تلك المؤسسة، أو يغير مجريات الأمور في هذه الدولة ([1])،

فضيحة ووترجيت

فالكل يعرف دور الإعلام في إنهاء حكم رئيس أكبر دولة في العالم، بإجباره على الاستقالة فيما عُرف بفضيحة “ووترجيت”([2]) Watergate Scandal وهو الاسم الذي اشتهرت به أكبر فضيحة سياسية حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي أدت إلى استقالة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ريتشارد نيكسون (من الحزب الجمهوري) في 9 أغسطس عام 1974م.

ووترجيت هو المكان الذي عقد فيه الحزب الديمقراطي اجتماعاته للتجهيز للانتخابات الرئاسية الأمريكية، وتم اكتشاف عملية تجسس أجراها كبار مساعدي الرئيس نيكسون الذي كان يسعى لفترة رئاسية ثانية، وقد أجرى الكونجرس تحقيقات حول هذه القضية كادت أن تأتى بقرار طرد الرئيس من منصبه، وإحالته إلى التحقيق لثبوت تورطه في عمليات إعاقة العدالة،

ومحاولة التغطية على تلك الفضيحة لولا أنه قدم استقالته ليكون أول رئيس في التاريخ الأمريكي يستقيل من منصبه، ثم أصدر بعد ذلك الرئيس جيرالد فورد (الذي كان نائبا لنيكسون) قرارا بالعفو عن نيكسون حتى لا يتعرض للمحاكمة، وقد أُدخل اسم “جيت” في التاريخ ليكون ذلك مصطلحا يلصق بكل فضيحة سياسية مثل (كونترا جيت، وإيران جيت وهكذا).

الرئيس جورباتشوف

ومنها أيضا موقف الإعلام من انقلاب الاتحاد السوفيتي على الرئيس جورباتشوف ([3])، حيث تولى ميخائيل جورباتشوف زعامة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي عام 1985م ليكون آخر زعيم لتلك الدولة التي تفككت فيما بعد، وقد حاول عن طريق سياسة “الجلاسنوست” و”البرويسترويكا” -أي ( الانفتاح السياسي) و( إعادة البناء) وهو الاسم الذي حمله كتابه الشهير الذي صُدر عام 1988- التقرب من الغرب، والانفتاح السياسي والاقتصادي مما حمل رياح التغيير إلى أوربا الشرقية بأكملها،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأدى في النهاية لسقوط الأنظمة الشيوعية في أوربا وأنهى حالة الحرب الباردة، ونتيجة لهذه السياسة قام الحرس القديم للنظام الشيوعي (الجيش والمخابرات الروسية K.G.B) بمحاولة انقلاب في أغسطس عام 1991م، وتم حجز جورباتشوف في إحدى المنتجعات على البحر الأسود وقُطعت عنه كافة الاتصالات،

ولكنه رفض الاستقالة، في حين أن دعاة الإصلاح في موسكو قاموا بمظاهرات عنيفة واستعدوا للقتال، وبدت وكأن الحرب الأهلية على الأبواب، غير أن أعدادا من كبار ضباط الجيش رفضوا تنفيذ الأوامر بالتدخل، وظهر نجم عدد من زعماء التقرب إلى الغرب من بينهم بوريس يلتسين،

الذي لمع نجمه في تلك الأزمة خاصة عندما ظهرت صورته في كل وسائل الإعلام وهو يمتطى دبابة ويخاطب الجماهير من فوقها داعيا للدفاع عن الديموقراطية، وفي نهاية العام تقريبا استقال جورباتشوف، وأنهى باستقالته الاتحاد السوفيتي من مسمى دولة، الأمر الذي أدى إلى تفكك ذلك الاتحاد وإنهاء كونه.

مظاهرات ساحة “تيان آن مين”

ونجد أيضا دور الإعلام البارز في أحداث مظاهرات بكين أو ما تعرف باسم مظاهرات ساحة “تيان آن مين”([4]) Tiananmen square protests والتي وقعت حين احتشدت جماعات حقوق الإنسان ومؤيدي الديموقراطية من الطلاب والعمال وذلك إثر وفاة هو يا بنج الزعيم الصيني في 15 أبريل عام 1989م، واستمرت المظاهرات والاعتصامات لمدة ستة أسابيع حيث شاهد العالم عبر المحطات الفضائية أكثر من مليون نسمة احتشدوا للمطالبة بالتفاوض مع قادة الحكومة حول إنهاء الفساد، وإجراء الإصلاحات السياسية،

وفي العشرين من مايو من نفس العام، وبعد تردد طويل من قادة الصين وحدوث اختلافات في الآراء حول كيفية إنهاء الأزمة أعلن دينج زياوبنج رجل الصين القوي الأحكام العرفية، وصدرت الأوامر للجيش بإنهاء هذه المظاهرات، وإخلاء الساحة، وجرت محاولات لوقف تدخل الجيش، وعمل حواجز تعيق تحركات القوات،

ولكن في ليلة الرابع من يونيو تدفقت أعداد كبيرة من تلك القوات وأخلت الساحة بالقوة مما أدى إلى قتل ما بين 800 إلى 1000 من المتظاهرين في الساحة، وتم القبض على آلاف آخرين، ولجأ عدد آخر من المطالبين بالديموقراطية إلى بعض الدول الغربية وانتهت بذلك هذه الحركة الشعبية والتي سميت فيما بعد بمذبحة تيان آن مين.

الكونجرس الأمريكي

وفي وقتنا الحالي، لا أحد يستطيع أن ينكر أيضا دور الإعلام في الإجراءات المتبعة من قِبل الديموقراطيين في الكونجرس الأمريكي، لعزل ترامب، إذا ثبت صحة أنباء اتصاله مع نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، وترجع أحداث القصة إلى شهر يوليو من عام 2019، حينما تم الكشف عن مكالمة هاتفية جرت بين ترامب وزيلينسكى بغرض قيام سيد البيت الأبيض بالضغط على نظيره الأوكراني،

لإجباره على فتح تحقيق في أنشطة هانتر بايدن، نجل منافس الرئيس الأمريكي الحالي، المحتمل في انتخابات الرئاسة المقبلة، وهو الديموقراطي جو بايدن، والذي كان يتولى منصبا في مجلس إدارة شركة Burisma الأوكرانية العاملة في مجال الغاز، وفي المقابل يسحب ترامب قراره بشأن سحب المساعدات الأمريكية العسكرية لحكومة كييف، الأمر الذي إذا ثبت سيكون له صداه المدوي في أرجاء البيت الأبيض، ومن ثم في العالم أجمع([5]).

دور الإعلام في تزييف الحقائق

وغيرها من الأمثلة التي تدل على أن نفوذ الإعلام تعاظم حتى أصبح قوة لا يُستهان بها، توجه الرأي العام، وتتسلط على السياسة والاقتصاد، لذلك حرصت كثير من الدول على توجيه سياسة الإعلام، وتجنيده لخدمة أهدافها، وتسريب الأفكار والآراء والمعتقدات عبر قنواته المختلفة، لتصل إلى الجميع في قوالب متعددة، ولا أحد ينكر إطلاقا أن الإعلام أصبح في عصرنا الحاضر عاملا قويا في إعادة تشكيل أخلاقيات وسلوكيات ومعتقدات الناس، بل أصبح يشكل عاملا مؤثرا في الأفراد، خاصة الناشئة منهم، الذين لم يتحصنوا بعد ضد أفكار الآخرين([6]).

وبات يستخدم الإعلام -في كثير من الأحيان- في سبيل استعمار عقل الفرد، وغسل مخه، وإعادة برمجته، أساليبا تثير غرائزه، وحاجات فطرية جبل الله عليها البشر، بعضها يعلو ويسمو فيخاطب الروح والعقل، وبعضها يهبط ويهوى فيخاطب الشهوة والهوى، ولكلٍ أسلوبه الذي يتناسب مع المهمة المكلف بها.

دور الإعلام الحقيقي

وعلى الوجه الآخر لا أحد يستطيع أن ينكر أيضا أهمية الإعلام في قيامه بتزويد الناس بالأخبار الصحيحة، والمعلومات السليمة، والحقائق الثابتة، والقيم الأصيلة، التي تساعدهم على تكوين رأى صائب في واقعة من الوقائع، أو مشكلة من المشكلات، بحيث يعبر هذا الرأي تعبيرا موضوعيا عن عقلية الجماهير واتجاهاتهم وميولهم([7])،

فلقد أصبح الإعلام اليوم مؤثرا في الدول والشعوب والأفراد، في عالم وعصر تطورت فيه وسائل الاتصال الجماهيري، بل أصبح فنا من الفنون وعلما من العلوم التي تُدرس في الجامعات، وأصبحت له نظرياته، وتطورت وسائله تطورا مذهلا، ومن هنا كان الاهتمام به كبيرا، والتركيز عليه أمرا بالغ الأهمية لقوة تأثيره، وسطوته على الأفراد والمجتمعات([8]).

إن مكمن الأهمية في دراسة قضية الإعلام لا يأتي فقط عن طريق الاهتمام بما يُقدم، ولكن عن طريق أيضا الهدف، وأسلوب التقديم، فالهدف، والمعلومة، وأسلوب العرض، ومدى صحتها ودقتها (أى المعلومة التي تُقدم) كل ذلك هو الذي يجب أن نركز عليه عندما نحلل الإعلام، وعناصره وأهميته، وأهدافه.

فتضليل Manipulation عقول البشر كما يقول باولو فرير أداة للقهر، فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة([9])، وللأسف قد يلعب الإعلام وأدواته دورا كبيرا بالنسبة لهؤلاء لتحقيق ذلك التضليل الجماهيري بنجاح، وهنا تكمن أهمية أخرى.

وللحديث بقية.

المصادر

([1]) سمير بن جميل راضى: “الإعلام الإسلامي رسالة وهدف”، رابطة العالم الإسلامي، العدد (172)، السنة (15)، 1417هـ، ص16.

([2]) عمرو دراج ونبيل عودة: “العسكرة في إدارة ترامب: التوجهات والأولويات”، المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة، 2017، ص5.

([3]) أحمد سليم البرصان: “تنامي قوة روسيا الاتحادية وعودتها إلى الشرق الأوسط”، مجلة دراسات شرق أوسطية، العدد (68)، السنة (18)، 2014، ص41.

([4]) Zhao Ziyang : “The origins of the 1989 Student Movement”, Prisoner of the State, The Secret Journal of Premier Zhao Ziyang, Simon & Schuster. ISBN 1-4391-4938-0, 2009.

([5]) موقع روسيا اليوم الإلكتروني: “رئيس لجنة في الكونجرس: عزل ترامب قد يصبح الخيار الوحيد في ظل فضيحة اتصاله مع زيلينسكي”، أخبار العالم، عدد (22) سبتمبر، 2019.

([6]) سمير بن جميل راضى، مرجع سابق، ص17.

([7]) محمد عباس عبد الرحمن: “الإعلام الإسلامي ودوره في حماية المجتمع من الإرهاب”، المؤتمر العلمي الرابع: “القانون والإعلام”، كلية الحقوق، جامعة طنطا، الفترة من (23) : (24) أبريل، 2017، ص1.

([8]) عبد الله بن محمد أحمد الحريري: “الإعلام وأثره في تربية الأسرة المسلمة- الواقع والمطلوب”، المملكة العربية السعودية، 2004، ص250، متاح فى:

https://repository.nauss.edu.sa. Accessed on : 18-11-2019.

([9]) هربرت شيللر: “المتلاعبون بالعقول: كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام”، (ترجمة): عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، رقم (243)، 1999، ص5، أنظر أيضا:

Paulo Freire:” Pedagogy of the Oppressed”, : Herder and Herder, New York, 1971, p. 144.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

الإعلام ومشاهد العنف

كيف يُوجه الإعلام العقل الجمعي؟

الحقيقة في عصر الإعلام

د. أحمد محيي خلف

مدرس التخطيط الاجتماعي والتنمية – قسم علم الاجتماع – كلية الآداب – جامعة المنيا