هل أنبأنا القرآن الكريم حقا بوجود الثقوب السوداء؟
ما هي الثقوب السوداء
الثُقب الأَسود حسب تعريف العلماء هوَ مكان في الفضاء حَيثُ يكون للجاذِبية فيه قُوة شَد كبيرة لا يستطيع حتى الضوء الهُروب مِنه، وفي العاشر من أبريل الماضي لعام 2019م كشف العلماء في مجموعة مؤتمرات صحفية متزامنة “مؤتمر تلسكوب أفق الحدث” عن أول صورة حقيقية يقال أنها لثقب أسود، فيما اعتبر إنجازا علميا كبيرا وتأكيدا لتنبؤات آينشتاين الذي تعرضت نسبيته العامة للثقوب السوداء. بعيدا عن الدخول في تفاصيل علمية وفيزيائية، بعد أن تم الكشف عن تلك الصورة ومن قبلها أيضا، كلما دار الحديث حول الثقوب السوداء ظهرت آراء الكثيرين من أن القرآن الكريم أخبر بوجود الثقوب السوداء قبل 1400 عام وهو من الدليل على إعجازه.
هل أخبرنا القرآن الكريم عن الثقوب السوداء؟
يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن تفسير الآيات”فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)” من سورة التكوير ينطبق على الثقوب السوداء وإلى هذا ذهب بعض الباحثين، فقد قيل في بعض التفسيرات أن المقصود بالـ(الخنس، الجوار الكنس) النجوم تخنس بالنهار وتجري بالليل.
وفي المعجم خنس أي تأخر، وخنس الكوكب أي توارى، وكنس الظبي أي دخل في موضعه في الشجر واستتر، والجواري الكنس أي الكواكب السيارة أو النجوم لأنها تكنس في المغيب أي تستتر كالظبي وقيل بقر الوحش أو ظباؤه.
فكما هو واضح فـكلمتي “الخنس”، و”الجواري الكنس” ربما حملتا على أكثر من معنى، وبالفعل اختلف في تفسيرها فقيل هي الكواكب السيارة وقيل النجوم وقيل بقر الوحش، فهما لا تحملان دلالة واضحة وواحدة ناهيك عن أنه بعد تفسيرهما بالنجوم القول بأنهما تدلان على الثقوب السوداء على أساس أن بعض الثقوب السوداء هي مرحلة موت النجم،
فلنا أن نتصور كيف أن الكلمتين اللتين لم تحملا دلالة محددة واضحة يتبنى البعض القطع واليقين بأنهما تحملان الدلالة على نوع خاص من النجوم أو مرحلة معينة من حياة النجم، ونحن لا نقول أن هذا غير ممكن، إنه ممكن لكن لا يمكننا القطع بذلك فقط دون دليل واضح على هذا التفسير وهذا الرأي!
كيف نتعامل مع النصوص الدينية؟
وهذا ينقلنا للتأمل في كيفية التعامل مع النصوص عامة والنص الديني بشكل خاص.
مبدئيا النصوص أو النقل مصدر من مصادر المعرفة الهامة جدا للإنسان، ووسيلة تواصل كبيرة تنقل معلومات ومعارف دينية وسياسية ورياضية وتاريخية وثقافية وإجابات لأسئلة كثيرة جدا.وهذا النقل قد يكون عن طريق الكتب أو وسائل التواصل الاجتماعي أو المجلات والجرائد أو التلفاز أو الهواتف وغيرها.
وأنت عندما تتلقى خبر معين أو تقرأ نص منسوب لشخص معين، وليكن مثلا أن يخبرك زميلك أنه سمع مديرك يقول أن الغد هو يوم عطلة من العمل وهو أمر ليس معتادا فهو ليس عطلة رسمية، عندها يجب أن تفكر في سؤالين في غاية الأهمية:
أولا: هل فعلا قال المدير ذلك؟ وهو سؤال عن صدق الخبر أو عن صدوره فعلا.
ثانيا: ماذا كان يقصد المدير حينما قال ذلك؟ وهو سؤال عن معنى الخبر أو دلالته.
وهذان السؤالان يجب أن تسألهما عندما تتعامل مع أي خبر أو أي نص، لا تسارع بتصديق صدور الخبر ولا تسارع كذلك في تبني أي فهم لدلالته دون دليل على كليهما، أي على صدقه وعلى ذلك الفهم أو تلك الدلالة.
من حيث صدق الخبر
أما عن صدق الخبر فربما زميلك يكذب، وإذا كان شخصا موثوقا به ومعروف صدقه فربما لم يسمع جيدا، ربما نقله له شخصا آخر غير ثقة، ربما لم يفهم كلام المدير جيدا ولم ينقل ما قاله المدير حقا بل نقل ما فهمه، وغيرها من الاحتمالات،
فيظل الخبر الذي ينقله واحد ظنيا أي يحتمل الكذب، ولكي نتأكد يقينا من صدور الخبر أو صدقه يجب أن ينقله كثيرون سمعوه بشكل مباشر أو رأوه ولا تجمعهم مصلحة معينة أو يستحيل اجتماعهم على الكذب وهو ما يعرف بالتواتر.
من حيث دلالة الخبر
وأما عن دلالة الخبر أو معناه، فلو سلمنا بأن مديرك فعلا قال أن غدا هو يوم عطلة، فربما يعني موظف معين بذلك لا جميع الموظفين، وربما مجموعة موظفين لظرف ما يشملهم، وربما يعني عطلة من جزء معين من العمل كأن يعني توقف ممارسة ذلك الجزء غدا واستكماله بعد ذلك،
وبالتالي فهمك أن الغد هو يوم عطلة من العمل بشكل كامل لا دليل عليه فهو أيضا فهم ظني أي يحتمل الخطأ ولن يتحول فهمك لكلام مديرك إلى فهم صحيح بشكل يقيني إلا إذا استيقنت من دلالة كل كلمة واستوضحت الخفي عليك منه مثلا.
هذه هي طريقة التعامل مع أي نص أو خبر منقول.
لماذا تزداد أهمية الفهم عند التعامل مع النصوص الدينية؟
وفي الأخبار والنصوص المهمة تُستزاد أهمية مراعاة تلك القواعد العقلية كالنص الديني مثلا فهو يعتبر من أهم النصوص التي تتعامل معها في حياتك، فهو يحمل معتقدات وأفكار تؤثر في رؤيتك لحياتك ورؤيتك للعالم بشكل عام وطريقك للسعي فيها، ويحمل تشريعات تختص بتعاملاتك مع خالق العالم وهي العبادات وتعاملاتك مع غيرك وهي المعاملات وهذه التشريعات تشمل كل سلوك في حياتك تقريبا، لذلك النص الديني شديد التأثير على حياتك ويجب مراعاة القواعد الصحيحة في التعامل معه.
ونص مثل القرآن الكريم نتعامل معه بنفس القواعد، فنسأل أولا سؤال الصدور أو صدق الخبر فنجد أنه وصل إلينا بالتواتر فقد نقله كثيرون لا تجمعهم مصلحة معينة ليتعمدوا الكذب، بل بالعكس نقلته الفرق الإسلامية المختلفة التي ربما كفر بعضها الآخر وقاتل بعضها الآخر بنفس الطريقة دون أدنى اختلاف.
من الآيات ما هو ظني الدلالة ومنها ما هو يقيني الدلالة
ثانيا نسأل سؤال الدلالة، فنجد أن هناك من آيات القرآن الكريم ما لا يحتمل سوى دلالة واحدة ومعنى واحد عند أهل اللغة مثل”الله لا إله إلا هو”(البقرة-255) فيكون معناها واضح لا تختلف فيه التفسيرات.
ومنها ما دلالته ظنية أي يحتمل أكثر من معنى، وهنا لا يمكننا ترجيح معنى أو فهم أو دلالة على أخرى إلا بدليل واضح يقيني سواء دليل عقلي أو نصي، وهنا يجب التنبيه أنه لا يمكن أن يفهم من النص الديني الصحيح دلالة تخالف حكما عقليا يقينيا صحيحا فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له كما يقول ابن رشد،
ومن الآيات ظنية الدلالة آيات سورة التكوير التي ذكرناها فلا يمكننا ترجيح معنى النجوم دون دليل واضح ويقيني كنص آخر يكون يقيني الصدور ويقيني الدلالة ويقول أن المقصود بهذه الآيات هو الثقوب السوداء.
أما أن نفترض تفسيرا معينا ثم نصدّره كأنه المعنى الوحيد الذي يمكن فهمه من الآيات دون دليل يقيني على ذلك ويصل تقديسنا لهذا الرأي والتفسير إلى مرتبة تقديس النص نفسه ثم نتعصب لهذا الرأي ونرفض غيره وصاحبه فإنه ليس من العقل في شيء!
والأخطر من ذلك، أن نفترض تفسيرًا معينا للآيات ينبئ باكتشاف علمي ما أو نظرية علمية ظنية يقول عنها العلماء أنها ظنية أي تحتمل الخطأ، فإذا ما أثبت لنا بعدها خطأ تلك النظرية عدنا نشكك في آيات القرآن الكريم لا في تفسيرنا المفترض للآيات! فنكون قد حملنا القرآن معنى معين دون دليل صحيح ثم نحاكمه بما افترضناه!
القرآن الكريم ليس مجرد كتاب علمي فقط
وفي الحقيقة فإن القرآن الكريم ليس كتاب فيزياء أو كتاب فلك أو كتاب فلسفة، بل هو كتاب يحمل رسالة غايتها الهداية، هداية جميع البشر للمعتقدات الصحيحة والتشريعات السليمة وحثهم على الخير ونهيهم عن كل شر،
وربما تعرض لأمر فلكي أو فيزيائي لكن ذلك لا يكون إلا بقصد الهداية أيضا فيكون مدخله لهداية بعض الخلق هو ذكر تلك الظواهر الفلكية والفيزيائية، والنظر للقرآن الكريم على أنه كتاب علمي و لَيّ آياته لتحتمل هذا النظر ليس بالتعامل الصحيح معه.
ولا يعني هذا أننا ننكر أن يكون في القرآن الكريم من الإعجاز العلمي، ليس هذا مقصودنا، لكن فقط نشير أن ذلك ليس هدف وغاية ذلك النص العظيم بل فقط إحدى وسائله لتحقيق الهداية المنشودة.
وكذلك طريق البحث في النص القرآني عما يوافق مكتشفات العلم الحديث ليس الطريق الصحيح لإثبات صحة هذا النص، بل طريق ذلك هو العقل المتسلح بالقواعد المنطقية الصحيحة، فالدين الصحيح هو ما وافقت نصوصه قطعية الصدور والدلالة ما وصل إليه العقل البرهاني من أنَّ هناك خالق لهذا العالم واحد كامل مطلقا أرسل أنبياء لهداية خلقه ولابد مقيم العدل ومحققه، هذا هو الطريق الصحيح لا لَيّ عنق الآيات لإثبات إعجازها.
وأيضا نشير لخطورة تبني تفسيرات ظنية للنص القرآني لا دليل عليها وتوهم يقينيتها وصحتها المطلقة ومحاكمة النص القرآني على أساسها.
وفي النهاية، هل أنبأنا القرآن الكريم حقا بوجود الثقوب السوداء؟ بفرض وجود تلك الثقوب السوداء حقًا وكون الصورة التي كشف عنها العلماء هي صورة لها حقا، فربما أنبأنا القرآن بها، ربما كان ذلك مقصود الآيات فعلا، وربما لا!
المصادر
- What Is a Black Hole? | NASA
- ناسا بالعربي – رسمياً، الإعلان عن أول صورةٍ حقيقية لثقبٍ أسود
- القرآن الكريم – تفسير الطبري – تفسير سورة التكوير – الآية 15
- تعريف و شرح و معنى خنس بالعربي في معاجم اللغة العربية
للمزيد حول علاقة العقل بالنص الديني وطريقة التعامل مع النصوص بشكل صحيح راجع كتاب “فك التشابك بين العقل والنص الديني” من إصدار مركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث.
اقرأ أيضا:
النص والعقل، يتكاملان أم يتعارضان؟ .. الرفيق قبل الطريق (الجزء الأول)