هكذا تغير دور الأسرة
لعل المتابع لأحوال الأسرة وما طرأ عليها من تبدل وتحول ويحاول أن يرصد أسباب التغير تلك، خصوصا بعد أن كانت الأسرة تشكل المنشأ الأول لتعليم القيم والسلوكيات الفردية والتي تنعكس فيما بعد لسوك اجتماعي داخل المجتمع نفسه
وليس بغريب أن يرتبط هذا التغير بالفكر المادي وما يحدثه من خلخلة في بنية المجتمع سواء على مستوى الفكر أو السلوك.
عملية علمنة الأسرة
ولفهم الامر أكثر؛ نعرض ما أصاب الأسرة من تغير ناتج عن تدخل هذا الفكر في الدور الرئيسي للأسرة والذي انعكس سلبا على باقي أنساق المجتمع. فالنظر لفكرة صبغ الأسرة بالصبغة المادية؛ يصرح دكتور عبد الوهاب المسيري بهذا المفهوم ” عملية علمنة الأسرة ” حيث تأخذ المؤسسات دور الأسرة في تربية وتعليم الأفراد وتصنع بديلاً عن العلاقات الإنسانية بعلاقات تعاقدية أي إلغاء طبيعة الإنسان الإنسانية وإعادة صياغتها وفق بنود قانونية جافة مُصاغة من خلال رؤية مادية للواقع أي أنها لا تراعي حاجات الإنسان المعنوية أو أي قيم إنسانية.
فكأن المؤسسات تعيد إدارة وتنظيم حياة أفراد مجتمعها وفق منظومة نفعية بحتة أي أن القوانين التي تحكم تعاملات الأفراد داخل المجتمع هي قوانين تحقق المصلحة لهم وللنهج المادي فنجد كذلك تعريف الفرد وفق منظومة اقتصادية بأنه مجرد دافع ضرائب، وتذهب قيمته أو تعلو وتسمو حسب ما يدره ذلك الفرد من ربح للمنظومة الاقتصادية وما أن انتهت مقدرة هؤلاء الأفراد بعد تقدمهم بالسن يُزجّ بهم إلي مؤسسات ربحية أو خيرية لرعاية كبار السن تنظر إليها الفلسفة المادية بنظرة العالة والخسارة إلي أنها قد تتربح من خلالهم. كذلك من خلال طلب المساعدات المالية لرعاية هؤلاء من مؤسسات خيرية أو من أهل هؤلاء وأسرهم
فنجد أن العلاقات التي تتشكل بين أفراد المجتمع علاقات قائمة على رؤية مادية للواقع لا تراعي أي بعد قيمي وإنساني أو معنوي، فتنشأ علاقة الشريكين على حقيقة المتعة فقط؛ أي أنه شريطة اجتماعهم وتشاركهم في ذلك مجرد اللذة والمتعة الجسدية والمنفعة المادية فما إن انتهت تلك الأمور عن تحقيق رضا أطراف تلك العلاقة يتم الانفصال حتي وإن كان هناك أبناء نتيجة تلك العلاقات .
بداية التفكك
أي أن ذلك الفكر يقوم بصياغة مفاهيم الحياة للأفراد وفق نظرة مادية بحتة فيجعل المتعة والتلذذ مراد الفرد، وأن المنفعة والربح المادي سبيله الوحيد للحصول على تلك اللذة أي سعادته فقط تكون بالاستهلاك الذي يحقق اللذة الحسية والمتعة الجسدية على صعيد الفرد والربح والمنفعة المادية على صعيد المؤسسات وأصحاب رؤوس الأموال؛ مما أدي إلى تفكيك أفراد الأسرة وتمحور كل فرد فيها حول ذاته.
فللرجل رؤية معينة عن السعادة، كذلك المرأة والأبناء ولأن تلك الرؤية كما عرضناها هي مادية وحسب؛ فلكل من هؤلاء الأفراد غايته الخاصة التي لن تخرج عن إطار كونها أنانية فردية وحسب فما إن سبب اجتماعهم عدم تحقق ذلك؛ بدأ التفكك بداية من الأب الذي يترك أسرته بحثا عن متعة في مكاناً آخر أو الزوجة كذلك والأبناء الذين تبدأ مسيرتهم من الخروج من ذلك الإطار الأسري الخانق بالنسبة لهم والذي لا يحقق لديهم استقلالية ومتعة شخصية.
التفكيك للفرد والأسرة
الفكر المادي أعاد صياغة المفاهيم والسلوك الإنسان وفق رؤيته للواقع وللإنسان، فحين يكون الإنسان هو ذلك الجسد المنتج المحقق للأرباح والباحث عن اللذة الحسية، والمال هو الوسيلة التي تُحقق له ذلك يبدأ في الانفكاك عن أي شيء يقيده أو يحد من سعيه الأناني ذلك.
فإن كان الفرد داخل منظومة كالأسرة أو يرتبط بمجموعة أشخاص من عائلة واحدة تُقيد تلك الأنانية وتفرض وتستوجب مسؤوليات عائلية؛ هرع خارج ذلك الإطار باحثًا عن لذته وانطلاق ذاته أي يتمحور حول ذاته والذي يزيد من معدلات التشرد لأفراد الأسرة أو نشأة الكثير من الأبناء بدون أحد الوالدين.
كيف يساعد الفكر المادي الإنسان للتمركز حول الذات سواء للأنثى أو الذكر؟
حين يجد الإنسان نفسه أمام فهم مادي فقط للواقع وأن السعادة هي مجرد ذلك التلذذ والتمتع الجسدي؛ يبدأ في تحقيق تلك الغاية وحينما يعي أن السبيل الوحيد في حصول ذلك له هو أنه يصبح ترساً عاملاً في منظومة اقتصادية رأسمالية تمنحه الربح على الإنتاج ومن ثم تمنحه ما يحتاج لكي يستهلك ويتلذذ، فيرضخ بكونه جزء من تلك المنظومة سواء أكان ذكرًا أو أنثي ويجتمع ويتشارك مع أفراد المجتمع وفق تلك الرؤية التي تجمعهم،
أي أنه يقضي فترة من حياته مع شريكة له في المنزل طالما يتحقق لدي كلاهما لذتهم المطلوبة، وتنشأ علاقات كذلك بين أصدقاء وجيران طالما توجد البنود المطلوبة من منفعة ولذة، فما إن انتهت تلك المنفعة أو اللذة فر كل فرد من علاقته بحثًا عنها في مكان آخر ومع أشخاص آخرين وهو ما يجعل كل أفراد الأسرة يتمحور كل منهما حول ذاته.
الإنسان وعالم الحيوان
قد لا نجد في عالم الحيوان شكل منظمًا في علاقات الحيوانات المختلفة بعضها ببعض. فلن نجد مثلاً أسرة محافظة من الأرانب تحتضن أطفالها لتحميهم من مجتمع الأسود الباحثين عن الفرائس، قولنا هنا ليس بفكاهيًا بقدر أنه مقارنة واقعية تظهر من خلالها الاختلاف بين الإنسان والحيوان،
ولأن الحيوان لا تحركه سوي مجموعة من الغرائز التي تحفظ بقائه وتمكنه من قضاء حوائجه والبقاء على قيد الحياة فلم تمكنه تلك الغرائز من إنتاج القيمة والبحث عن المعني والارتقاء والتحضر بمستوي العيش لديه.
وهذا ما تميز الإنسان به ورغم أنه يشترك في كونه حيوانًا بالجسد يتشارك كذلك معه في بعض الغرائز إلي أنه لا يطيق العيش على النحو الذي يعيشه الحيوان وإلا قتلته وحشيته ونغّصت طبيعته الروحية عليه حياته بداية من تساؤلات ” من أين أتيت؟ وإلي أين أذهب؟ وما هذا الذي أنا فيه؟
حقيقة الإنسان واختلافه عن عالم الحيوان
وهنا تبدأ حقيقة الإنسان في فرض نفسها وكونه ليس فقط حيوانًا، إنما ناطق استطاع جزؤه الروحي المسمى بالعقل أن يصنع اللفظ والرمز والصورة والمثال ومن ثم اللغة والفن؛ ليبلغ المعني؛ ليكشف حقائق الوجود. فبات كائنًا مختلفًا في العالم.
ولاختلاف ذلك الكيان فرضت طبيعته أن تسد كذلك مع حاجاته الجسدية حاجاته الروحية. ولأنه مميز بالعقل أي الإدراك والإرادة أي الاختيار كانت أول حاجته؛ اشتياقه للمعرفة لمعرفة من هو؟ من أين أتي؟ وإلي أين يسير؟ من الذي جاء به إلي هنا؟ وإن كان مخلوقاً فما يريد الخالق من خلقه؟ وكيف يحيا؟ وما الذي يفعله ليسعد؟
فتكونت بينه وبين الوجود علاقات غير ظاهرة أي معنوية وتكوّن بينه وبين الخالق كذلك علاقة معنوية، وبينه وبين بني جنسه، فبمعرفة خالقه أصبح في شكر وتعبد وطاعه له، أي وضعت لديه منظومة قيمية تُشكل ضوابط أخلاقية في كافة تعاملاته وسلوكياته، وحينما عرف الواقع أصبح في تناغم عادل معه لا يفسد فيه وفق الضوابط الأخلاقية والقيمية التي تضبط سلوكياته،
وكذلك بعد أن نشأ في مجموعة من بني جنسه وجد أنه في حاجة جسدية ليقيم علاقات مع أفراد آخرين يفعل هو أمرًا أو مهامًا معينة كأن يزرع مثلاً ويفعل الآخرين مهامًا أخرى تكاملية كأن يطحن الزرع أحدهما ويخبز الآخر ذلك الطحين وفي تلك الأثناء وجد أنه لعلاقاتهم تلك جانب معنوي هم في حاجة إليه وهو أن يتبادلون الدعم المعنوي والحب والود والتراحم،
وكذلك في منتصف تلك التعاملات والعلاقات تُظهر لهم شخصياتهم سلوكيات تنم عن حقائق نفوسهم وطباعهم ومن ثم تمكنهم من جانب آخر هم بحاجة إليه ألا وهو ميدان تدريبي واختباري لمعادن وقيم نفوسهم والتي تعين أصحابها على رصد ما في النفس وإعادة التهذيب والتربية والتدريب لما يرصده المرء من قصور في نفسه، من ثم تضبط تلك التعاملات التي تربط أفراد المجتمع الواحد من خلال منظومة أخلاقية تحفظ صلاح الفرد والمجتمع ككل.
الأسرة مؤسسة اجتماعية ومنظومة تربوية وتكاملية للفرد والمجتمع
احتياج الفرد للأسرة كاحتياج النبات للتربة فمن الطبيعي أن تبدأ حياة الإنسان بفترة طفولة تلزمه فيها رعاية جسدية ونفسية خاصة من قبل الأم، ليشب بنمو طبيعي كالنبات إلي أن ذلك النمو ليس فقط جسدياً أي ما يحتاجه من مأكل وملبس ومأوي، إنما كذلك نمو روحي فمعرفته لطبيعته وكيفية قضاء حوائجه والبقاء على قيد الحياة،
وحين يصير شابا يحتاج كذلك للدعم المادي والمعنوي أي يظل كالنبات مربوطًا بتربته تقضي حوائجه من مأكل وملبس ومأوي من خلال أسرته التي ينشأ فيها وحاجته كذلك للمعرفة من خلال والديه ليتكون لديه رؤية شاملة للحياة ولتتشكل بالنسبة له غايته فيها وأهدافه التي يسعي إليها.
يندرج كل ذلك البناء المعرفي تحت بناء شخصيته أو الجانب الروحي لديه أي امتلاكه للمعرفة الكافية لكي يتعرف على الحياة وكيفية العيش فيها وليمتلك القدرة على تحمل المسؤولية حين ينبت هو كذلك كفرع من أسرته بأسرة جديدة بالشراكة مع شريكة حياة. يستمر كذلك -كل ذلك الأمر- في تلك الرحلة في قضاء حوائج أطرافها المادية والمعنوية.
فمن طبيعة الإنسان احتياجه للزواج من الناحية الجسدية لسد حاجته الغريزية ومن الناحية الروحية وجود شريك يمنحه الدعم النفسي الكافي ويشاركه رحلته الحياتية.
إن صلحت الأسرة صلح المجتمع
نجد أنفسنا أمام سلسلة طبيعية تتكون من خلالها حلقات من أسر لن تنعم أو تسعد أفرادها إلا بذلك التسلسل الطبيعي الذي تقضي خلاله حاجاتهم النفسية والجسدية وتتكامل فيه نفوسهم وأجسادهم، وكذلك تصبح تلك هي خلايا تكوين جسد المجتمع.
وغياب أو تفكيك تلك المنظومة المجتمعية ينذر عن فساد المجتمع وفساد فكر أفراده، فإن طبيعة الإنسان الجسدية والروحية تقتضي تلك العلاقات الإنسانية سواء بين الأب والابن والزوج والزوجة والأخ والأخت والجار بجاره وكل فرد بالمجتمع مع غيره.
ولن تنمو أو تسد حوائج هؤلاء الأفراد داخل المجتمع أبدًا إلا من خلال تلك المنظومة التي ستوفر لأفرادها الحب الذي هم بحاجة إليه والدعم والود الذي تحتاجه نفوسهم أو على الأقل كذلك المعرفة الكافية لهم لكي يسلكوا مسارهم في الحياة، فكما أن في عالم الحيوان يخرج الشبل مع الأسد سواء أكان والده أو أمه ليتعلم كيف يسد جوعه وكيف يكون سبيله في الحياة كذلك الإنسان تمامًا،
وإن أصبح الأمر أكثر تركيبًا بالنسبة للإنسان لوجود جانب آخر لديه ألا وهو عقله، فإنه لن تتوقف حاجاته من الأسرة على كيف يعيش ويقضي حوائجه وكيف يتصرف في الحياة ويمتلك المعرفة بداية من كيفية إعداد طعامه وشرابه، وكيفية تنظيف نفسه، كيفية قضاء كافة حوائجه الجسدية،
كيف يحافظ على سلامته فيأتي كذلك احتياجه المعنوي فهو بحاجة إلي من سبقه في الطريق على أن يرشده إلي حقائق كونه إنسان كيف يستخدم عقله وكيف يتعامل مع إخوته بالمجتمع مِن مَن هم يخالفونه بالأفكار والسلوكيات؛ بل كذلك يحتاج لمعرفة كيفية التمييز بين الصواب والخطأ وكل ذلك يقع تحت حاجاته المعنوية الضرورية والتي لن تُقضي إلا من خلال منظومة مجتمعية سليمة البنية تسمي الأسرة.