فن وأدب - مقالاتمقالات

رفاعة الطهطاوي الأديب المبتكر

الابتكار سمة النابغين وأسلوب حياة المفكرين، ولا يكون الإنسان ناجحًا في حياته إلا إذا كان مبتكرًا، في عمله أو في طريقة معيشته أو في تعاملاته الحياتية، وإذا أردت أن تعرف مقدار نجاح إنسان فانظر إلى مدى ابتكاراته وعدم نمطيته ووقتئذ تتضح لك قيمته.

نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز

ويتجلى الابتكار الأدبي عند “رفاعة” في أسلوبه السردي الذي بنى عليه كتابه: “نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز”، وهو أول كتاب يختص بسرد سيرة الرسول الأعظم –صلى الله عليه وآله وسلم– في العصر الحديث، وقد كتبه “رفاعة” على ضوء من كتب السير السابقة مثل سيرة ابن هشام وابن كثير وغيرهما، لكنه لم يقلد أيًا منها في أسلوبه بل شهد هذا الكتاب ميلاد أسلوب جديد في السيرة النبوية، يقوم على سرد السرديات الكبرى مثل: “حادثة الهجرة” والسرديات الوسطى مثل: “غزواته” –صلى الله عليه وآله وسلم– والسرديات الصغرى مثل: سائر الأخبار المتعلقة بحياته الشريفة في تمازج بين الأنواع الثلاثة وفق ما اقتضاه نظام “رفاعة” في سرده، فهو لم يتتبع الحياة النبوية الشريفة فقط في كتابه بل تتبع الحياة كلها وقتئذٍ في إسهاب كبير، من حيث الوظائف التي شاعت في هذا العصر وما يختص منها بالرجال وما يختص بالنساء، والأدوات التي يستخدمها صاحب كل وظيفة وما يتصل بها من حدود وأعراف، كما تحدث عن العادات والأعراف التي شاعت في عهد النبوة، وأنواع الصناعات والتجارات والزراعات التي شهدها هذا العصر، وهذا فيه ما فيه من التجديد والابتكار في الأسلوب الحكائي للسيرة النبوية الذي يختلف عن الأسلوب الذي تبناه أصحاب السير قبل ذلك، ونجد “رفاعة” هنا موظفًا التقنيات الزمنية السردية من استباق واسترجاع (الفلاش باك) في تحليل المواقف وتجليتها، ومستخدمًا المنهج العقلي في تحليل الأحداث والوقائع، دارسًا الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي الذي كان قائمًا في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الدعوة الإسلامية ثم بعد ظهورها، كما استطاع “رفاعة” في هذا الكتاب أن يردّ على الصورة المشوهة التي رسمها الكتاب الغربيون للإسلام ولنبي الإسلام.

إعادة الصلة بين التاريخ والأدب

من جانب آخر فإن كتابه هذا يمكن استقباله في إطار التيار الأساسي السائد في الرواية العربية الحديثة في المرحلة الأولى من مراحل ظهورها في الأدب العربي، التي تمتد من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى، وقد ساد فيها نمطان روائيان هما الرواية التاريخية والرواية التعليمية، ويتفق النمطان في كون التعليم الهدف المشترك لكليهما، وإن اختلفت طبيعته بينهما، ففي حين كانت الرواية التاريخية تعلّم الأحداث والوقائع التاريخية الخاصة بزمن أو شخصية ما من التاريخ العربي والإسلامي، فإن الرواية التعليمية قد تغيت تقديم معارف من علوم متنوعة، وقد تفهم “رفاعة” هذين النمطين فجاء كتابه هذا سيرة نبوية حكى فيها حياة الرسول “محمد” –صلى الله عليه وآله وسلم– متتبعًا الأحداث والظواهر الحياتية الكبرى التي شهدتها هذه الحياة، ومن جانب آخر جاء كتابه تعليمًا وإرشادًا بتمثل النموذج الكامل للإنسان في أبهى صوره، وبهذا يكون “رفاعة” قد استطاع أن يعيد الصلة بين التاريخ والأدب بوصف هذا الكتاب سيرة حياتية تتناول السيرة النبوية وفي الوقت ذاته هو أقرب إلى الفن الروائي الحديث الذي جعل من كتب السير روايات أدبية تنطوي تحت تيار الرواية التعليمية، كما أن الشاعرية نفسها صاحبته هنا في هذا الكتاب أيضًا كما صاحبته في سائر آثاره، إذ نجده يكثر من الاستشهاد بأبيات من الشعر ينظمها هو أو ينقلها عن الآخرين توشية وحلية لكتاباته.

دور رفاعة الطهطاوي في النهضة الحديثة

وبعد، فلا شك أن “رفاعة الطهطاوي” –الأزهري دراسةً المصري مولدًا– قدم للمكتبة العربية زادًا وفيرًا ومجموعًا ضافيًا من العلم والمعرفة والثقافة والترجمة، وأنه لما أراد أن ينهض بالبلاد المصرية ليجعلها تلحق بركب التقدم الأوروبي قدم مشروعًا نهضويًا اجتماعيًا يتناسب مع احتياجات عصره وما يفرضه وقته، ويتناسب مع تصورات “رفاعة” نفسه ورؤاه التي استخلصها من سفره إلى “فرنسا”، ومن معارفه التي تأسست في ردهات الجامع الأزهر الشريف الذي شهد تكوين “رفاعة” وتأسيسه الأول، وفي الوقت ذاته يتناسب مع الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الذي يدين به أهل مصر جلّهم دون الخروج عليها، فالمشاهد الباريسية التي نقلها في “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” والأفكار الرفاعية التي قدمها في “المرشد الأمين في تربية البنات والبنين”، وفي “مباهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية”، والحياة المثلى التي رصدها في “نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز” بالإضافة إلى أكثر من خمسة وعشرين مترجمًا تتضافر جميعًا في تقديم النموذج الاجتماعي الثقافي الذي أراده “رفاعة” للشخصية المصرية في العصر الحديث، ولا شك أن مشروعه هذا كان أساسًا من أسس بناء النموذج المعرفي المصري الحديث الذي رسخت قدمه في الثقافة العربية الأصيلة واستمدت فروعه بعض نمائها من الثقافة الأوروبية الحديثة.

ختامًا أوشي هذا المقال بقالةٍ قالها أمير الشعراء “أحمد شوقي” واصفًا “رفاعة الطهطاوي” في رثائه عليًا ابن الشيخ رفاعة: يا ابن الذي أيقظت مصرَ معارفُهُ * أبوك كان لأبناء البلاد أبـا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أستطيع أن أقول إن رفاعة الطهطاوي كان نموذجًا إيجابيًا وفعالًا للقاء المفكر بالدولة لبناء الجمهورية الجديدة التي خطت مصر نحوها منذ آماد بعيدة، ولا تزال تخطو.

مقالات ذات صلة:

تخليص الإبريز قراءة سردية

النبي ، الإنسان الكامل والرئيس الأول

نخبة المفكرين الجهاز المناعي للمجتمع

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر