علم النفس الإيجابي في مخططات عامة .. الجزء الثالث
علم النفس الإيجابي من أجل ماذا؟!
ثبت علميًا أن تنمية الانفعالات الإيجابية ترقي الحالة الصحية العامة للإنسان، وتدفعه باتجاه الارتقاء الشخصي في الحياة، والشعور بطيب الحياة والهناء فيها. من جانب آخر يعد تبني الشخص اتجاهًا إيجابيًا نحو الحياة ونحو الذات ونحو الآخرين يزيد من عتاده ومصادره الفكرية والعقلية والجسمية والاجتماعية، بما يمكنهم من الاستجابة القائمة على الاقتدار عند مواجهة مواقف صعبة غير متوقعة، يتصف من يستطيع تطوير اتجاه إيجابي نحو الحياة بمزيد من التحمل والدأب والجلد والصمود، علاوة امتلاء تكوينه النفسي بالانفعالات الإيجابية والقدرة على إثبات الذات باستقلالية، وتعامل فعال مع أي مصادر للضغوط وسرعة التعافي من تأثيراتها السلبية.
من المهم تذكر:
يمتلك البشر بصفة عامة مصدرين قويين من العتاد النفسي، يفضي اتباعهما واستثمارهما بعد تعهدها بالرعاية والتنمية إلى استطاعة الناس مجابهة المواقف الصعبة أو الشدائد والمحن وتجاوزها، وربما الارتقاء والازدهار في إطارها، ويتمثل هذان الرافدان فيما يلي:
أ- القدرة على الاختيار والتقرير: أي القدرة على صنع القرار واتخاذه.
ب- القدرة على تغيير اتجاهنا أو موقفنا.
أكد فيكتور إميل فرانكل رائد علم النفس الوجودي على هذا التصور في كتاباته كلها، بخاصة كتابه الإنسان يبحث عن معنى الصمود كونه قدرة عملية على المجابهة الفعالة والتوافق الإيجابي مع مشاق الحياة ومحنها وصدماتها وأزماتها وأحداثها الضاغطة.
الصمود كونه حالة من القدرة على التحمل والجلد والدأب والمرونة في التعامل مع أزمات الحياة ومحنها، وسرعة النهوض والتعافي من تأثيراتها مكون أو تركيب أساسي في بنية علم النفس الإيجابي، وربما يكون الصمود صفة كامنة في كل شخص، أو ربما يتمكن من تعهدها بالرعاية والتنمية عبر عمليات التعلم. وجدير بالتنويه أن “روح المرح والدعابة والحس الفكاهي”، و”الانفعالات الإيجابية” عوامل جوهرية في تمكين الإنسان من الصمود. ولا يفقد من يتصفون بالصمود أبدًا قدرتهم على رؤية أن مآلات الأمور والأحداث والوقائع ستكون إلى الأفضل في المستقبل، حتى إذا كان الحاضر مؤلمًا ومتعبًا وشاقًا، ومن هنا تتولد لديهم روح التصميم والمثابرة والدأب والكدح الإيجابي رغم المشاق والمتاعب.
نظرية السعادة لمارتين سيلجمان
- الحياة القائمة على الاستمتاع والسرور واللذة، تتضمن: السرور والمشاعر الطيبة والإيجابية.
- حياة الاندماج: وتشمل نسيان الإنسان بشعوره بذاته واستغراقه وتدفقه فيما يؤديه من أعمال.
- الحياة الممتلئة بالمعنى: وتعني أن يكون الإنسان جزءًا من شيء أكبر من ذاته (التسامي).
يوجد عديد من النظريات والنماذج النظرية التي طرحت لوصف “السعادة” وتفسيرها من المنظور التقليدي، علاوة على ما طرح مؤخرًا من تصورات لمقاربة السعادة وصفًا وتفسيرًا وقياسًا وتنمية من منظور تيار دراسة قضايا الإيجابية في الحياة وفي الطبيعة البشرية. وتتمثل هذه النظريات فيما يلي:
نظرية المتعة أو السرور والاستمتاع القائم على اللذة (Hedonism Theory)
يعد مذهب المتعة (Hedonism) أو السرور والاستمتاع القائم على اللذة في الحياة مذهبًا فلسفيًا، تقارَب بموجبه السعادة على أنها شعور ذاتي خام (raw subjective feeling)، يعبر عن توجه الشخص تعبيرًا تامًا نحو تعظيم مشاعر السرور واللذة وتقبل الألم إلى أقل قدر ممكن. فالشخص السعيد هو الذي يبتسم كثيرًا ويبدو بريق البهجة في عينيه، وتقل عليه مؤشرات الألم.
وعادة ما ينظر إلى هذه النظرية في وصف السعادة وتفسيرها وفقًا للجذور التصورية لما يعرف بمذهب المنفعة العامة (Bentham’s utilitarianism) كما صاغه وطوره جيرمي بنثام، ويعبر عنها عن مثل هذه النوعية من السعادة في إطار عدوى محتويات عروض هوليود (Hollywood entertainment) في إطار عالم التسلية والترفيه بأفظع مظاهره في النزعة الاستهلاكية الأمريكية.
ويعد دانيال كانيمان (Danny Kahneman) اختصاصي علم النفس الإيجابي أكثر تجسيدًا في أعماله العلمية لهذه الرؤية، وهو ذلك الاقتصادي الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد خصوصًا في تركيزه على اقتصاديات السعادة، عن طريق اعتبار المتعة هي الغاية الأساسية والمؤشر المركزي للسعادة.
نظرية الرغبة (Desire Theory)
نظرية الرغبة ربما تقدم تصورًا أفضل نوعًا ما من نظرية المتعة، إذ ينظر إلى السعادة وفقًا لنظرية الرغبة على أنها تمثل حصول الشخص على ما يريد، وبغض الطرف عن محتوى الرغبة بالنسبة إلى الشخص تصنف أيضًا نظرية الرغبة من المنظور الفلسفي تحت مذهب المتعة، بخاصة إذا كان ما يريده الشخص في الحياة الحصول على كثير من المتعة وقليل من الألم.
ومع ذلك يرى أنصار نظرية الرغبة أن تحقيق الشخص لرغباته وحصوله على ما يريد بغض الطرف عن مقدار المتعة أو الألم أمر موجب للسعادة.
نظرية القائمة الموضوعية (Objective List Theory)
يُقَاربُ أنصار نظرية القائمة الموضوعية السعادة خارج نطاق الشعور الذاتي للشخص، ويلحقونها مباشرة في قائمة الأشياء ذات القيمة والنفع في العالم الموضوعي أو الحقيقي، ويرون أن السعادة تتمثل في تحقيق الشخص لأشياء معينة جديرة بالاهتمام والقيمة، مثل: الإنجازات المهنية، الصداقة، الخلو من المرض والألم، وسائل الراحة المادية، الروح المدنية، الجمال، التعليم، الحب، المعرفية، الضمير اليقظ.
السعادة الأصيلة (Authentic Happiness)
طرح مارتين إلياس بيتر سيلجمان (Seligman, 2003) السؤال التالي: “أين تقع نظرية السعادة الأصيلة في إطار النظريات الثلاث السابقة؟ وأفاد سيلجمان أن السعادة وفقًا لنظريته تتضمن ثلاثة أنواع أساسية عبر عنها على النحو التالي:
- الحياة السارة (The Pleasant Life): أو حياة السرور والمتع.
- الحياة الطيبة أو الجيدة (The Good Life): وتعبر عن ما يعرف بالاندماج في الحياة.
- حياة المعنى أو الحياة الهادفة (The Meaningful Life).
ويمثل النوعان الأوليان من السعادة المنظور الذاتي للسعادة، في حين يشير البعد الثالث على الأقل إلى الجزء الموضوعي في إطار سعي الشخص لتحقيق ما له قيمة وأهمية كله، أيضًا في ضوء ملذاته ورغباته.
وعلى ذلك فإن نظرية السعادة الأصيلة تحاول التوليف بين النظريات الثلاث الأولى للسعادة، إذ إن الحياة السارة ترتبط بما يعرف بنظرية المتعة في وصف السعادة، في حين تتعلق الحياة الجيدة بنظرية الرغبة، وترتبط الحياة الهادفة ذات المعنى بنظرية القائمة الموضوعية.
قوام نظرية السعادة وفقًا لتصورات مارتين سيلجمان –وكما يتضح من المرفق الأجنبي– أن للسعادة ثلاثة أشكال:
- حياة الاستماع والسرور: وتعني سعي الإنسان نحو الانفعالات الإيجابية، مثل: البهجة والفرح واللذة والامتنان والأمل، وتلمسها حتى وإن كان للحظات مؤقتة من الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل.
- حياة الرضا: التي تتكون مما يعرف بحالة التدفق والاندماج التلقائي الإرادي في الحياة، أو القدرة على الاستغراق في أنشطة مبهجة مرضية ومثيبة.
- الحياة الهادفة المفعمة بالمعنى: أو حياة القيمة والمعنى والغرض التي يتجاوز بها الإنسان حدود ذاته للتحلق حول ما ينفع الآخرين وينفع مجتمعه كله.
مراحل التحفيز أو استنهاض الهمة
من الأقوال المأثورة عن مارتين سيلجمان: “الأخبار الجيدة جدًا أنه يوجد عدد لا بأس به من الظروف الداخلية التي بإمكان الإنسان السيطرة عليهم إراديًا إذا قرر التغيير، ويجب التأكيد على أن هذه التغييرات لا يمكن أن تحدث دون مجهود حقيقي، وأن بإمكان الإنسان رفع مستوى سعادته في الحياة”.
تلقي الحياة العثرات والمآسي نفسها على المتفائل والمتشائم، لكن المتفائل ينظر إليها على نحو إيجابي قائم على الاستبشار.
يقول ميهالي تشكزنتميهالي: “اجتهد في معرفة ما تحب وما تكره وتحديده في الحياة، وابدأ بفعل كثير من الأشياء التي تحبها وقليل قليل من الأشياء التي تكرهها.
تقول باربرا فريدريكسون: “الإيجابية تثري من نطاق الحياة أمامنا وتوسعه، والحقيقة الأساسية أن الانفعالات الإيجابية تفتح قلوبنا وعقولنا، وتدير وجهتنا في الحياة نحو مزيد من التوجهات الإبداعية وتقبل الاختلاف واتساع المنظور وتعددية الرؤية.
يقول ميهالي تشكزنتميهالي” :حياة المرح والبهجة هي من تكوين الفرد ولا يمكن استنساخها على غرار حياة أي شخص آخر”.
إذا أردنا أن نعيش حياة في ظروف أفضل من المهم أن نمارس التدريبات والتمارين الجسمية، وأن نتناول وجبات غذائية متوازنة، وأن نجتهد في تكون اتجاه إيجابي نحو الحياة، وأن نثري من نطاق الانفعالات الإيجابية ونوسعها. علينا أن نعرف أن السعادة لا تعني الصراع من أجل إبعاد الانفعالات السلبية من حياتنا، لأن هذا الأمر بالإضافة إلى كونه مستحيلًا فإن الانفعالات عامة هي الوقود الذي يحركنا ويجعل لحياتنا طعمًا ولونًا.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا