مقالات

نظرية التطور ؛ بين التاريخ والفلسفة … رابعًا: البحث الأيديولوجي

في المقالين الأخيرين تناولنا نظرية التطور من الناحية الفلسفية النظرية، وفي هذا المقال نتناولها من الناحية الفلسفية العملية؛ أي ما يعرف بالأيديلوجية.

حيث قامت الفلسفة المادية باستخدام نظرية التطور بفهمهم السابق الخاطئ لها في محاولة لإثبات بعض الأفكار الأيديولوجية المتطرفة الخاصة بهم، وصبغها بصبغة علمية. وقد استخدموا أفكار “داروين” و”سبنسر” بالذات في مسعاهم هذا، فاستغل البعض هذه الأفكار لبناء أيديولوجيات متوحشة.

 

التطور المستمر:

من الأسس المهمة في الأيديولوجيات المادية في العصر الحديث هي فكرة التطور المستمر للسلوك الإنساني، فالجديد والحديث أفضل دائمًا من القديم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهذه الفكرة هشة جدًا، إذ إن تأخر شيء ما زمنيًا لا يجعله أفضل من غيره، فقد يكون إنسان ما صالحًا لسنوات ثم يرتكب جريمة قتل، هذا لا يجعل القتل أفضل من الصلاح.

وبناء على هذه الفكرة يتم تمرير كثير من الأفكار والتصرفات وأنماط الحياة لمجرد كونها أحدث وأجدد.

وقد تم استغلال نظرية التطور للترويج لهذه الفكرة، فلما كانت الكائنات الحية في الطبيعة في حالة تطور مستمر؛ فإن سلوك الإنسان في حالة تطور مستمر أيضًا، وهو استدلال واهٍ، إذ إن كون الطبيعة تتطور بسبب قوانين تحكمها أو بسبب فاعل حكيم يوجهها كما سبق لا يجعل سلوك الإنسان خاضعًا لنفس القوانين بالضرورة، فالإنسان يتمتع بالقدرة على الاختيار، فيمكنه ببساطة أن يختار أن يفعل الأسوأ، فيتسافل ولا يتطور.

فببساطة إن قام الإنسان بالأخذ بأسباب التطور في سلوكه فهو يتطور ويرتقي، وإن أخذ بأسباب التسافل والتأخر فهو يهوي للقاع، ولا توجد حتمية تجبره على فعل الأفضل دائمًا.

 

الاختلاف الحقيقي والاختلاف الظاهري:

يمكن بسهولة ملاحظة وجود تشابهات بين الكائنات الحية ووجود اختلافات أيضًا.

ومن أهم هذه التشابهات هي التشابهات القائمة بين أفراد النوع الواحد، حيث توجد مجموعة من الخصائص الأساسية والجوهرية التي تجمعهم، والتي يمكننا أن نعرف من خلالها أننا أمام نفس النوع. فالقطط مثلا تجمعها صفات أساسية ثابتة تجعلنا نعرف أنها قطط بالرغم من اختلاف وتنوع أشكالها وأحجامها وألوانها.

أما الاختلافات فهي صنفان، الصنف الأول هو الاختلافات الظاهرية بين أفراد النوع الواحد كأفراد القطط المختلفة في الحجم واللون كما سبق.

والصنف الثاني هو الاختلاف بين الأنواع نفسها، كالاختلاف بين القطط والكلاب والفئران، وهو اختلاف في الصفات الأساسية والجوهرية نفسها.

فمن الواضح وجود حقيقة معينة ثابتة تجمع أفراد النوع الواحد، وتميزه عن غيره من الأنواع، بينما يختلف أفراد النوع الواحد في الصفات الظاهرية.

لكن “داروين” تعامل مع صنفي الاختلاف كصنف واحد، فإن كانت القطط يختلف فراؤها حسب البيئة والطقس فيمكن أن نقول إن الأنواع نفسها تختلف وتتغير حسب البيئة أيضًا، وهو استدلال غير علمي، حيث إن ما يسري على التغيرات الظاهرية لا يسري بالضرورة على التغيرات النوعية والجوهرية، والقول بخلاف ذلك يحتاج لدليل.

 

عدم المساواة:

وتطبيق هذه الفكرة على الجانب الأيديولوجي أدى لنتيجة خطيرة؛ وهي أن الاختلافات بين البشر هي اختلافات حقيقية ونوعية وأساسية وجوهرية، وليست اختلافات ظاهرية، أو على الأقل هي بنفس قيمة الاختلافات النوعية الجوهرية الحقيقية، وبالتالي أصبح هناك أساسًا فلسفيا لعدم المساواة بين البشر.

ومن عباءة هذه الفكرة تظهر بعض أكثر الأيديولوجيات عنصرية وتطرفا، فالغني لا يتساوى مع الفقير، بل هو متفوق عليه تفوق نوعي لا يمكن تجاهله، وجيناته أكثر تطورا وتستحق البقاء والانتخاب، بينما الفقير لا يستحق ذلك. والرجل الغربي الأبيض أفضل من باقي البشر، بينما أثبتت مجموعات أخرى من البشر أنهم غير متطورين بما يكفي.

لكن الصحيح أن البشر تجمعهم حقيقة نوعية واحدة، فهم جميعًا لهم جسم نام حساس متحرك بالإرادة ويمتلكون عقلًا، وهذه الأمور هي التي تجعلهم بشرًا بالفعل، وبدونها لا يصبحون بشرًا بل شيئًا آخر، وجميعهم يتساوون في هذه الحقيقة مساواة مطلقة. والاختلافات بينهم اختلافات ظاهرية لا غير، مثل الطول والعرض والوزن واللون، فهذه الاختلافات لا تنفي عنهم الصفات الأساسية كما هو واضح، وبالتالي لا تنفي كونهم بشرًا، بل فقط تجعل أحدهم إنسانًا أطول والآخر إنسانًا أسرع لا غير!

 

الحياة صراع مستمر في سبيل البقاء:

وسبب الاختلافات كما يرى “داروين” هو الصراع المستمر بين الكائنات لأجل البقاء، فالموارد محدودة، والكائنات مدفوعة غريزيا للحفاظ على بقائها، وبالتالي تتأقلم مع البيئة وتختلف وتتطور، والصراع بين الحيوانات والكائنات الحية في الطبيعة مستمر ولا تحكمه أية قيمة إلا السعي للبقاء.

وبتطبيق ذلك على البشر تنتج نتائج أيديولوجية خطيرة؛ فتصبح الحالة الطبيعية ليست حالة اجتماع بين البشر، أو ود وتعاون وحب وإيثار، بل هي حالة صراع مستمر، وهو صراع للحفاظ على بقائك نفسه، لا تحكمه أية قيم، مثله مثل الصراع في الغابة والطبيعة، ويمكننا ببساطة أن نرى أثر اعتناق البعض في عالمنا اليوم لمثل هذه الأفكار، حيث يسعى باستمرار للصراع مع الآخرين على الموارد وقهرهم وتدميرهم، ولا تحكمه أية قيم أخلاقية.

لكن الحقيقة أن الموارد في البيئة كافية للبشر إن تعاونوا وأحسنوا استخدامها وتحلوا بالقناعة وتركوا الطمع، فالطاقة المتجددة مثلا موجودة بشكل غير محدود على الأرض، ومثل ذلك في أهم الموارد المتاحة.

كما أن النظريات الإلهية التي تؤمن بوجود إله حكيم ترى أن الإله أمد الأرض بما يكفي من الثروات للعناية بالإنسان، لكن الإنسان هو الذي يطغى ويطمع ويتصارع مع أخيه بدلا من التعاون معه لأجل حصولهما معًا على أفضل نتيجة.

 

البقاء للأصلح:

والاختلافات تلعب دورًا مهما فيمن يستحق البقاء، فمن لديه صفات أكثر ملاءمة للبيئة والظروف يستحق البقاء استحقاقًا طبيعيًا، بينما الآخر لا يستحق ذلك، ومن الواضح خطورة تطبيق هذا المبدأ، وقد صرّح “سبنسر” بهذا القانون وهو قانون البقاء للأصلح.

وهذا المبدأ في الحقيقة مبدأ قديم، يعرف باسم “حق القوة”، أي أن من لديه القوة هو من معه الحق، وهو الذي يستحق أن يبقى وأن يكون، وعادة ما يقصد بالقوة نوع من القوة المادية.

لكن الجديد هنا هو في تحديد نوع القوة، فالقوة الحقيقية طبقًا لهذه النظرية هي القدرة على التأقلم مع البيئة ومن ثم القدرة على البقاء.

ومبدأ “حق القوة” شديد السذاجة والتهافت من الناحية الفلسفية، فلو كانت القوة المادية تعطي لصاحبها حقًا لكان قاطع الطريق له الحق في سلب أموالك، والقرصان له الحق في نهب السفن، والمستولي على الحكم عنوة ضد إرادة الشعب له حق وشرعية.

ومن الواضح أيضًا أن تمتع شخص ما بقوة جسدية أو مادية لا يجعل أفكاره وأقواله حقًا بالضرورة، فإن اختلف اثنان في ناتج جمع 4+4 فإن من معه الحق هو من سيقول 8، لا الذي يمتلك عضلاتٍ أو نفوذًا أو مالًا أكثر!

 

الداروينية الاجتماعية والعلمانية:

إن هذه الأفكار ليست شاذة أو غريبة بالنسبة للتيار العلماني، فالعلمانية أو الدنيوية هي الأيديولوجية المبنية على الفلسفة المادية سابقة الذكر في المقالات السابقة، ولما كانت الفلسفة المادية لا ترى وجودا إلا للمادة فإن الاختلاف في الصفات المادية بين البشر -كاللون أو المال- يصبح اختلافا مهما لا يمكن تجاهله؛ فتسقط المساواة، كما يصبح الإنسان الأفضل والأصلح بالتأكيد هو المتفوق ماديًا، ويصبح لديه حقوقًا أكثر من غيره.

أيضًا لما كانت المادة فقط هي الموجودة وهي التي لها قيمة فإنه من الطبيعي أن يسعى الإنسان للحصول على أكبر قدر منها. والأخلاق أمور غير مادية فلا يصبح لها وجود في المعادلة بالتأكيد.

أيضًا لما كانت المادة فقط هي الموجودة فإن فكرة العالم الغيبي واليوم الآخر وغيرها من الأفكار الغيبية تصبح مرفوضة، وبالتالي فإن الحياة الوحيدة التي سنعيشها هي الحياة في هذا العالم المادي، وبالتالي من الطبيعي أن تسعى بكل قوتك للبقاء فيها والحفاظ عليها.

 

الداروينية الاجتماعية وأثرها المدمر:

من رحم هذه الأفكار ومثلها تصدر بعض أكثر الأفكار السياسية عنصرية وتطرفا وعنفا، كالنازية والصهيونية. فالنازية لا تؤمن بالمساواة، بل ترى للجنس الآري تفوقًا على باقي البشر، وترى من ثم أن من حقه البقاء وإن تطلب ذلك إبادة الآخرين، بل قامت بالفعل بعمل انتخاب صناعي شبيه بالانتخاب الطبيعي عن طريق قتل بعض الضعفاء والمرضى.

والصهيونية تستولي على الأرض بحق القوة، وترى لنفسها وللشعب اليهودي تطورا ورقيا طبيعيا على باقي البشر وبخاصة العرب، كما لا تؤمن بالمساواة بينها وبينهم، ولا تخضع لأية قوانين أو قيم أخلاقية أو إنسانية، بل تسعى للبقاء باستخدام القوة لا غير، مثلما تفعل الحيوانات في الغابة.

 

مراجع للاستزادة في البحث الأيديولوجي:

  • عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة – النظرية، دار الشروق، القاهرة، 2009، ط3.
  • عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة – التطبيق، دار الشروق، القاهرة، 2009، ط3.
  • عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، 8 مجلدات، دار الشروق، القاهرة، 1999.
  • يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، مكتبة الدراسات الفلسفية، القاهرة، ط5.

 

اقرأ أيضا :
نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. أولًا: البحث التاريخي

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. ثانيًا: البحث الفلسفي (1)

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة … ثالثًا: البحث الفلسفي (2)

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا