قضايا وجودية - مقالاتمقالات

النزعة الإلحادية الجديدة ونصل أوكام .. الجزء الثاني

نصل أوكام بين العلم ووجود الله

من الأفكار الإلحادية الشائعة فكرة أن العلم يستبعد وجود الله، ومؤدى الفكرة أنه كلما قدَّم العلم مزيدًا من التفسيرات عن العالم، قلَّت بالتالي حاجتنا إلى افتراض وجود الله للتفسير.

يؤخذ هذا أحيانًا على أنه تطبيق لنصل أوكام (Ockham’s Razor)، ذلك القائل: “إذا أمكنك أن تكتفي بالعدد الأقل من الأشياء أو الأفعال أو التفسيرات، فمن غير المُجدي أن تستخدم عددًا أكبر”.

بالتطبيق على مسألة العلم ووجود الله: إذا أمكن للعلم في حد ذاته أن يُفسر العالم من حولنا، فلسنا بحاجة إلى تفسير إضافي يفترض وجود الله.

ريتشارد دوكنز يعيد إحياء الداروينية

الحق أن هذا النمط من التفكير إنما يقع في بؤرة مزاعم النزعة الإلحادية الجديدة، فقد طبَّق كريستوفر هيتشنز نصل أوكام بوضوح في حجته ضد وجود الله.

الفكرة ذاتها نجدها في كتاب ريتشارد دوكينز المعنون “وهم الله” (The God Delusion) 2006، إذ زعم أن الدين قد تصدى تاريخيًا لتفسير وجودنا وطبيعة الكون الذي يحتوينا، لكن العلم قد حل محله الآن تمامًا في الاضطلاع بهذا الدور.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ركَّز دوكينز بشكلٍ ما في حجته ضد وجود الله على وصفه بالتدمير الدارويني لحجة التصميم (Design)، القائلة بأن ثمة سمات وتعقيدات في الكون والكائنات الحية لا يُمكن تفسيرها إلا بمُسبب ذكي.

وجود الله

من خارج نطاق النزعة الإلحادية الجديدة، لخَّص الفيزيائي وعالم الكونيات الأمريكي شون كارول (Sean Carrol) من مواليد 1966، وجهة نظره بوضوح على النحو التالي: “على مدار الخمسمائة سنة الأخيرة، عمل التقدم العلمي على استبعاد دور الله من العالم،

وقبل ألفي سنة، كان من المعقول تمامًا التذرع بوجود الله لتفسير الظواهر الطبيعية، لكننا الآن نستطيع أن نفعل ما هو أفضل بكثير من ذلك!”.

في هذا الصدد، يشير ديفيد جلاس (David Glass) ومارك مكارتني (Mark McCartney) الباحثان بكلية الحاسبات والرياضيات بجامعة أولستر Ulster University بالمملكة المتحدة، في مقال لهما تحت عنوان “العلم، نصل أوكام والله” (Science, Ockham’s Razor & God)، نُشر في مجلة “الفلسفة الآن” (Philosophy Now) العدد 115، 2016، إلى أن ثمة حاجة إلى الحذر، قد يمثل نصل أوكام أداةً مفيدة للغاية، لكن استخدامه بشكلٍ خاطئ يمكن أن يجعله أداة خطرة.

عندما يكون الأبسط أفضل

لنأخذ أولًا مثال ذلك السيناريو الذي يعمل فيه نصل أوكام: لنفرض أنك لم تستطع ذات صباح تشغيل موتور سيارتك، هنا لديك تفسيران ممكنان، الأول أن ثمة عيبًا في البطارية، والثاني أن العيب في دائرة بدء تشغيل المحرك.

حينئذ تستدعي الميكانيكي الذي يقرر بسرعة أن المشكلة في البطارية، وإذ إن هذا يفسر سبب عدم بدء الموتور في الحركة، فليس هناك سبب للاعتقاد بأن ثمة مشكلة في دائرة بدء التشغيل.

إن نصل أوكام يستبعد الحاجة إلى تفسير إضافي، وإن كان من الممكن أن تكون المشكلة في كل من البطارية ودائرة بدء التشغيل معًا، وهو ما يتضح بالتجربة.

قاعدة نصل أوكام

نصل أوكامالآن خذ هذا السيناريو الآخر، لنفرض أن سيارتين قد اصطدمتا في تقاطع به إشارتي مرور، هنا تفترض الشرطة –استنادًا إلى الأدلة الأولية المتعلقة بمكان الحادث وحالة أحد السائقين– تفسيرين ممكنين.

الأول أن أحد سائقي السيارتين قد تجاوز خط الوقوف إذ كانت الإشارة حمراء، والثاني أن السائق ذاته كان مخمورًا.

لدينا الآن دليل إضافي مؤداه أن السائق كان مخمورًا بالفعل، فهل نستطيع إذن تطبيق نصل أوكام إذ نقول إنه لم يعد هناك سبب للاعتقاد بأن السيارة قد قطعت خط الإشارة؟

الإجابة بالنفي قطعًا، لأن التفسيرين يسيران جنبًا إلى جنب، ولا يمكن استبعاد أحدهما بمقتضى الآخر؛ قد يكون السائق مخمورًا ولا يقطع الإشارة، وقد يقطع الإشارة دون أن يكون مخمورًا.

كيف يمكن إذن أن نقرر في حالةٍ نوعيةٍ ما إذا كان من الممكن تطبيق نصل أوكام لكي نبقي على فرضٍ واحد ونستبعد الآخر؟

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

النفس في الفلسفة والعلم والدين

قراءة في “دليل أكسفورد في الدين والعلم”

نظرية الاحتمالات

في مقالٍ سابق تحت عنوان “هل يمكن أن نصل إلى تفسير نهائي لدليل التصميم؟” (Can Evidence for Design be Explained Away?) نشره ديفيد جلاس في كتاب “الاحتمال في فلسفة الدين” (Probability in the Philosophy of Religion)، تحرير جيك تشاندلر (Jake Chandler) وفيكتوريا هاريسون (Victoria Harrison)، 2012.

كذلك في مقالٍ آخر له بمشاركة مارك مكارتني تحت عنوان “التفسير والتفسير النهائي في العلم والدين” (Explaining and Explaining Away in Science and Religion) نُشر في مجلة اللاهوت والعلم (Theology and Science)، العدد 12، 4، 2014، اقترح المؤلفان تفسيرًا صوريًا استنادًا إلى نظرية الاحتمال، وتفسيرًا غير صوري يستند إلى الإجابة عن عدد من التساؤلات، من بينها ما يلي:

التوزيعات الاحتمالية

نصل أوكامالسؤال الأول: إذا كان لدينا فرضان (أ) و(ب)، فهل يستبعد أحدهما الآخر؟ إذا كان ذلك كذلك فإن قبول (أ) يستلزم رفض (ب)، والعكس صحيح.

من الواضح أن هذا يمكن أن يؤدي إلى نسخة ساذجة من نصل أوكام، لكن الأكثر أهمية هو النظر في الحالات التي لا يستبعد فيها أحد الفرضين الآخر.

السؤال الثاني: هل يعتمد أحد الفرضين على الآخر؟ إذا كان ذلك كذلك فإنه يقلل من إمكانية تطبيق نصل أوكام.

السؤال الثالث: ما مدى احتمال أن يكون الدليل المُتاح نابعًا من كل فرضٍ على حدة؟ إذا كانت الإجابة “من المحتمل جدًا”، فإن هذا يزيد من إمكانية نصل أوكام.

السؤال الرابع: هل ثمة سبب وجيه لقبول الفرض (أ)؟ إذا كانت الإجابة بالنفي فإن هذا يقلل من تأثير نصل أوكام في الحالات التي يمكن أن يحدث فيها.

تطبيقات الاحتمالات

دعنا نطبق هذا التساؤلات على السيناريوهين اللذين ذكرناهما.

في حالة السيارة التي لا تعمل: في حين أن التفسيرين لا يستبعد أحدهما الآخر –السؤال الأول– فإن الإجابة عن باقي الأسئلة تساعدنا في معرفة إمكانية تطبيق نصل أوكام بشكلٍ مناسب.

يبدو أن الفرضين لا يعتمد أحدهما على الآخر بقوة –السؤال الثاني–، وأي تفسير يمكن أن يشكل دليلًا في حد ذاته –السؤال الثالث–، وقد وجد الميكانيكي أن أحد الفرضين صادق بالفعل –السؤال الرابع–.

أما في حالة الحادث المروري، فالتفسيران لا يستبعد أحدهما الآخر –السؤال الأول–، وهناك اعتماد بينهما لأن أحدهما يفسر الآخر –السؤال الثاني–، وكلاهما لازم لتفسير كل الأدلة –السؤال الثالث–، وفي هذه الحالة، التأكيد على صدق الفرض القائل بالقيادة تحت تأثير السُكر –السؤال الرابع– لا يقوض التفسير الآخر.

يتبع

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية