مقالات

نصف الكأس الفارغ!

لا شيء يُحقق أناقة الروح والعقل، وسيمترية العمل، لا سيما لمن كان عمله مرتبطًا بالتعليم والفكر والبحث العلمي، سوى أن يُقدم عليه صاحبه محتفظًا ولو بالحد الأدنى من الرضا الوظيفي، لذا أشفق على كل من يتولى منصبًا إداريًا في الوطن العربي، كبُر هذا المنصب أو صغُر، وفي قلبه مثقال ذرة من مثالية مُفترضة!

وقناعتي –كآخرين غيري– أن أنأى بنفسي عن أي صراعٍ وظيفي، فلا منصبٍ مساوٍ أو أكبر يستهويني، ولا كرسي يجذبني ويغويني، ولا مال أتحايل على كسبه عن غير اقتناع بقسمة الله لعباده، وما من غاية أصبو إليها سوى أن أتعلم وأن أنفع بما تعلمت.

بين الرضا والغضب

مع ذلك، يضطرني عملي كثيرًا للانغماس في اجتماعات مجالس دورية تمتد لساعات طويلة، منها ما أشارك فيه كعضو، ومنها ما فُرض عليَّ أن أديره، فإذا بها تقتطع من الوقت والجُهد والطاقة قدرًا يُخطئ موضعه.

ربما كنت ألتمس لنفسي السلوى لو أن هذه الاجتماعات تُناقش –كما هو مُفترض– قضايا علمية، أو خططًا بحثية، أو حلولًا لمشكلات تصب في خانة الصالح العام، وربما وجدت بعض العزاء لو أننا كنا نتحلى بثقافة الحوار الموضوعي الهادف والهادئ، الذي يتصافح فيه الرأي والرأي الآخر، ويتجول فيه الفكر عبر منطقة رمادية متسعة للجميع،

لكنك تجد نفسك في الغالب أمام نزاعات ثنائية آنية، مبعثها قناعات شخصية دوجماطيقية متنافرة، وأيًا كان القرار الذي تتخذه، ولو بأغلبية الآراء، تجد نفسك في النهاية وقد أغضبت طرفًا وأرضيت آخر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وما بين الرضا والغضب تدور رحى الصراع حتى إشعار آخر، لتخرج وأنت مدينٌ لعقلك بالاعتذار، مُحملٌ بأوزار انتهاك «ما يجب أن يكون»، تحتبس بداخلك زفرة قهر باكية، وتعلو وجهك ابتسامة دهشة ساخرة! تخرج لتعود بأقدامٍ متثاقلة، وروحٍ مُنهكة، وعقلٍ كبلته تضاربات الحاضر والآتي!

لا تنظر إلى نصف الكأس الفارغنصف الكأس الفارغ

ذات يوم، قال لي أحدهم ناصحًا: “لا تنظر إلى نصف الكأس الفارغ، بل انظر إلى نصفه الممتلئ بالماء.”، قلت: “كلماتٌ خدَّاعات، يُراد لنا بها أن نرى بنصف عين، وأن نُفكر بنصف عقل، وأن نُحب بنصف قلب، وأن نكتفي بأنصاف الحلول، فلا يستقيم لنا منهج، ولا تكتمل لنا فكرة، ولا يرتسم أمامنا مستقبل، وما هكذا تكون فلسفة من أراد وطنًا يفر إليه، فلا تلتهمه في الطريق خيبات الأمل الكاذب!”.

لقد علمتنا الفلسفة يا صديقي أن ننظر إلى الكأس بأكمله، فندرك بدقة مقدار ما به بالفعل من ماء، وحجم ما به من فراغ، وأن نفحص ما إذا كان الماء صفوًا نقيًا أم آسنًا لا يروي ظمأ الظامئين؟!

ثابتًا وإلى زيادة، أم متبخرًا وإلى نقصان؟! وأن نعرف ما إذا كان الكأس نظيفًا أم ملوثًا؟! صلبًا أم قابلًا للكسر بسهولة؟! ونسأل قبل ذلك كله: لمن يكون الكأس؟ ومَن مِن حقه أن يرتوي بالماء؟!

الحقيقة تتوارى في نصف الكأس الفارغ

تريد الحقيقة؟ حسنًا، الحقيقة في وطني تتوارى في نصف الكأس الفارغ، هي ما لم تبح به يومًا، بل وتخشى البوح به، هي تلك المشاعر التي ظلت حتى الآن حبيسة صدرك، هي تلك الأفكار التي احتفظت بها دومًا لنفسك، فقط لنفسك، هي ما تعرفه عن نفسك وعن الآخرين ولا تنطق به،

هي تلك الكلمات التي تكاد تنفجر بداخلك حين تلتقي أشخاصًا تقرأ الكذب والوقاحة في عيونهم وتجد نفسك مضطرًا لاصطناع ابتسامة هي بدورها كاذبة، هي تلك المعاني المنزوية خلف ما تكتب،

المعتصرة ألمًا خلف ما تقوم به من أعمال تشعر بتفاهتها، هي ذلك الخنجر المرشوق في قلبك وعقلك وأنت تمارس يوميًا طقوس الحياة في العالم العربي! الحقيقة يا صديقي بداخلي وداخلك، ولو بُحنا لأوجعنا أنفسنا وأوجعنا الآخرين!

اقرأ أيضاً:

صراع ثقافات لا صدام حضارات

علــوم على الأرصفة

الألقاب العلمية في بلادنا العربية

ما يعانيه قطاع الثقافة والتعليم والبحث العلمي في العالم العربينصف الكأس الفارغ

تريد وصفًا لقطاع الثقافة والتعليم والبحث العلمي في العالم العربي من داخله؟ حسنًا، هو عالمٌ صعب ومُراوغ، عالمٌ يقتطع من مباهج الحياة بأكثر مما يمنح، ومن طمأنينة العقل بأكثر مما يهب! ما إن تنغمس فيه حتى تُدرك أن زيفه يفوق صدقه، وأن جده يُكابد انتعاشة هزله!

وفي أجواء الإحباط الحضاري الذي نعيشه ينشط فيه أنصاف وأرباع وأشباه الباحثين، وتعلو منابر الوهم، وتتجمل دُثر العلم الكاذب، ويجترئ الأقزام، ولا يتورع بعضهم عن نشر غسيلهم القذر أمام الملأ صراعًا على مالٍ أو منصب أو مكانة، ولا يخجل بعضهم من سداد فاتورة النفاق كاملة نُشدانًا للرضا والترقي والقفز فوق أكتاف العباد، وقبل ذلك وبعده،

هو عالمٌ لا يحظى برعاية الحكومات وأولي الأمر بقدر ما يطالبونه وينتظرون منه! صحيح أن ثمة قطاعات عريضة في عالمنا العربي تعاني مما يُعاني منه قطاع الثقافة والتعليم والبحث العلمي، لكن معاناة هذا الأخير أشد خطورة وأقوى تأثيرًا، لأنه المركز الذي تنبعث منه موجات كافة القطاعات الأخرى، والبؤرة التي تتلاقى أو تتفرق عندها ثقافة أمة بأكملها!

متى يمتلئ نصف الكأس الفارغ؟

النتيجة المنطقية اللازمة هي ما نراه الآن: مدارس فكرية وعلمية زائفة، كثرةٌ من أنصاف الأساتذة وحشدٌ من أشباه الباحثين تتزين أسماؤهم بحرف (الدال) يعيثون مرحًا وطربًا على شواطئ الوهم الأكاديمي، آلافٌ من الرسائل التجميعية (اللا علمية) و(اللا إبداعية) تكتظ بها أرفف المكتبات الجامعية، ترقيات عبثية مُشخصنة،

برامج ورقية مظهرية للتطوير لا تُسمن ولا تغني من جوع، سرقات علمية معلنة ومستترة تتدثر غالبًا بالجهل المنهجي، جودة في حاجة إلى التجويد واعتمادٌ يلزمه الاعتماد، وشباب يكابدون البطالة والعطالة على قوارع الطُرق، يتساءلون عن نصف الكأس الفارغ: متى يمتلئ؟

ربما كان الأمل في أجيال أخرى لاحقة تبرأ من شوائب المراهقة الفكرية، وتتحرر من قوالب اللا معقول، ولا تعتاد عبثية حاضرنا، طلبًا لمستقبل أفضل!

هكذا نحن .. نحتج بأنفسنا على أنفسنا

أخيرًا، كان الشيخ «صفي الدين الهندي» (المتوفى سنة 715 هـ)، يكتب بخطٍ غاية في الرداءة، وكان رجلاً ظريفًا ساخرًا.

قال ذات مرة: وجدت في سوق الكتب كتابًا بخطٍ ظننته أقبح من خطي، فغاليت في ثمنه واشتريته لأحتج به على من يدّعي أن خطي أقبح الخطوط، فلما عدت إلى البيت اكتشفت أنه بخطي القديم!

هكذا نحن في خطط وبرامج التطوير والتحديث والتجديد، وكذا في خطابنا الثقافي والتعليمي والإعلامي، نحتج بأن ثمة من هو أسوأ منا، فإذا بنا نحتج بأنفسنا على أنفسنا!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية