مقالات

نحو مشروع للسلام العلمي العالمي – الجزء الأول

مقدمة تشاورية

مقدمة:

على غرار الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” الذي كتب عام 1795م مقالته الشهيرة “نحو سلام دائم: مخطط فلسفيTo Perpetual Peace A Philosophical Sketch”، ينوي كاتب هذه الكلمات كتابة مقدمة تمهيدية تشاورية لتكون دعوة وبذرة مشروع للسلام العلمي العالمي، ينبع من مشروع كانط العالمي،

ومسترشدا بمواده التسع الواردة في مقاله التاريخي، لكن بمنهجية تختلف بعض الشيء عن منهجية كانط، ومسترشدا كذلك بوثائق الأخلاقيات الإقليمية والعالمية، وخاصة وثيقة “شِرعة أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا في المنطقة العربية[1]” الصادرة عن منظمة اليونسكو عام 2019م.

من ثم جاءت فكرة المقال من قناعة كاتبه بأن السلام العلمي العالمي يعد نقطة الانطلاق الأساسية للتنمية العالمية المستدامة في شتى المجالات، وأن السلام العلمي العالمي يعد دعوة للمشاركة العلمية العالمية، وما يترتب عليها من صلاح وسلامة وحماية البشرية من عديد من المخاطر التي قد تتعرض لها بسبب سوء السلوك العلمي، وما ينتج عنه من حروب في شتى المجالات، وذلك لتداخل العلوم في الأمور كافة، كالأمور البحثية والأمور الاقتصادية والأمور التكنولوجية والأمور الاجتماعية، والأمور العسكرية والأمور السياسية أيضا، إلخ.

مفهوم السلام The concept of peace:

إن لمصطلح السلام مفاهيم كثيرة تختلف طبقا لاختلاف الأيديولوجيات، وطبقا لاختلاف الهدف من البحث، لكن يفضل الكاتب هذا المفهوم الإجرائي الذي يخدم الهدف من المقال، حيث يرى السلام العالمي بأنه “حالة من الأمن والاستقرار تسود العالم، وتتيح التطور والازدهار للجميع”. أما السلام الدائم Perpetual peace فيعرف بأنه حالة يسود فيها السلام منطقة معينة بشكل دائم.

وتأسيسا على التعريفات السابقة، يمكننا تعريف السلام العلمي العالمي تعريفا إجرائيا بأنه: “حالة من الأمن والاستقرار والتعاون تسود المجتمع العلمي العالمي، تتيح هذه الحالة التطور والازدهار والتنمية للعالم أجمع”. ومن منطلق أن جميع الصراعات القديمة والحديثة –سواء كانت عسكرية أو اقتصادية أو سياسية.. إلخ– يؤدي العلم فيها دورا كبيرا؛ حيث إن الذي يمتلك أدوات التقدم العلمي هو الذي يستطيع حسم هذا الصراع لصالحه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ملخص مشروع كانط للسلام الدائم:

قسم كانط مقاله الشهير «نحو سلام دائم: مخطط فلسفي» إلى قسمين([2])،  اختص القسم الأول بالمواد التمهيدية لتحقيق سلام دائم بين الدول، واختص القسم الثاني بالمواد النهائية لتحقيق سلام دائم بين الدول.

وجاءت المواد التمهيدية في ستة مواد، وتتمثل –بترتيب كانط– في الآتي:

  • المادة الأولى: لا تُعد معاهدة من معاهدات السلام معاهدة بحق إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب من جديد.
  • المادة الثانية: إن أي دولة مستقلة (صغيرة كانت أو كبيرة) لا يجوز أن تملكها دولة أخرى، بطريق الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة.
  • المادة الثالثة: يجب أن تلغى الجيوش الدائمة إلغاء تاما على مر الزمان.
  • المادة الرابعة: لا يجب التصديق على قروض (ديون) وطنية من أجل المنازعات الخارجية للدولة.
  • المادة الخامسة: لا يجوز لأي دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها.
  • المادة السادسة: لا يحق لأي دولة في حرب مع أخرى أن تمنح لنفسها الحق في القيام بأعمال عدائية ضد تلك الدولة، كالاغتيال، والتسميم، وخرق شروط التسليم، والتحريض على الخيانة، والتي من شأنها عند إقرار السلام مجددا بين الدولتين أن تؤدي لفقدان الثقة بين الدولتين.
ثم جاءت المواد النهائية لتحقيق السلام عند كانط في ثلاث مواد، لتشكل أساسا لبناء السلام. وتتمثل هذه المواد في الآتي:
  • المادة النهائية الأولى: يجب أن يكون دستور المدينة في كل دولة دستورا جمهوريا.
  • المادة النهائية الثانية: ينبغي أن يقوم قانون الشعوب على أساس نظام اتحادي بين دول حرة.
  • المادة النهائية الثالثة: حق النزيل الأجنبي، من حيث التشريع العالمي، مقصور على إكرام مثواه.

وثيقة السلام العلمي العالمي:

يمثل ظهور الوثائق الأخلاقية في الأمم ذات الثقافات المختلفة دليلا ساطعا على التنبه العملي لأهميتها البالغة بوصفها عملا يتجاوز الحدود والأعمال المرجعية. وإذا كان هناك مبدأ أساسي معين في دستور منظمة الصحة العالمية يؤكد أن صحة جميع الشعوب أمر أساسي لبلوغ السلم والأمن.. إلخ، فإن أهمية وثيقة السلام العلمي العالمي تكمن في رؤية ترى أن وضع المعايير والشرائع والمدونات والوثائق الأخلاقية أمر في غاية الأهمية لضمان التقدم المثمر، والحرية والخصوصية والسلم والأمن القومي والعالمي.

من ثم يجب على المختصين، وعلى المعنيين والمهتمين بعمل مشروع للسلام العلمي العالمي الاهتمام أولا بوضع وثيقة أخلاقية عالمية كلية شاملة ضابطة وضامنة للسلام العالمي بين العلوم المعرفية المختلفة، فلا يكون للسلام العلمي العالمي فاعلية دون الاتفاق على وثيقة أخلاقية معيارية عالمية شاملة للعلوم المعرفية، تكون استرشادية وملزمة لجميع أعضاء المجتمع العلمي، وتعمل على زيادة الاطمئنان والثقة بين جميع منتسبي المجتمع العلمي العالمي وفيهم.

ثانيا يجب على الحكومات الاتفاق على بنود مشروع قانون دولي يجرم استخدام نتائج العلوم في الصراعات التي من شأنها التأثير سلبا على مستقبل البشرية والبيئة الطبيعية، أو استخدام نتائجها في المساعدة في سيطرة الدول الكبيرة المتقدمة علميا على الدول الصغيرة النامية أو المتأخرة علميا. من ثم يصبح العلماء على الحياد دائما في هذه الصراعات، الأمر الذي يعزز التعاون المثمر بين العلماء، مما يعمل على توافق الفكر وتقارب وجهات النظر بين السياسيين وإزالة سبب الصراعات وبالتالي حل جميع المشكلات.

إن مشروع السلام العلمي العالمي الدائم موجه لأولئك الذين يؤمنون بقدرة العلم على حل كثير من المشكلات، لكنه ليس معني بأولئك الذين يقدسون العلم تقديسا كبيرا، أو أولئك الذين يجعلون منه الحكم الأوحد في دولة المعرفة. وسوف نتحدث في مقال قادم –إن كان في العمر بقية– عن البنية المقترحة لوثيقة السلام العلمي العالمي الدائم.

المصادر:

[1]– للاطلاع على الشَرعة  باللغة العربية وتحميلها يمكن الدخول على الرابط الآتي:

https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000372170

[2]– انظر: إيمانويل كانط: مشروع للسلام الدائم: مخطط فلسفي، مراجعة وتحرير: ياسر شعبان، الطبعة الأولى،  القاهرة: دار كنوز للنشر، 2019.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضاً:

السلام العالمي

مفهوم السلام العالمي

السلام الحقيقي

د. وائل صبره

عضو هيئة تدريس بجامعة سوهاج، مدرس الفلسفة ومناهج البحث كلية آداب