فن وأدب - مقالاتمقالات

لوحة نيلية أسطورية

بعد سنوات من صدور روايتها ذائعة الصيت “نوة الكرم”، عادت الكاتبة الراحلة نجوى شعبان لتضيف لبنة جديدة إلى مشروعها الروائي، الذي تنسخ خيوطه على مهل وروية.

تعرض فيه صورًا من تاريخنا الشعبي عبر حكي عجائبي يطل من أعطافه واقع مختلط بالأساطير، ويسير في جنباته بشر متعبون تحكمهم سلطة غاشمة، وتتعايش في رحابه الكائنات كافة؛ ناس وحيوانات ونباتات وجمادات، وتحل فيه عديد من المتشابهات والأضداد، لتتفاعل كل هذه العناصر على أكتاف سرد لافت، يعطي صانعته مذاقًا خاصًا في المشهد الأدبي المصري الراهن.

هذه اللبنة الجديدة هي رواية “المرسى” التي صدرت مؤخرًا عن دار العالم الثالث، والتي تبدو متصلة ومنفصلة في آن عن سابقتها “نوة الكرم”.

مقارنة بين رواية “نوة الكرم” ورواية “المرسى”

أوجه التشابه

وجه الاتصال يكمن في انتماء الاثنين إلى “الرواية التاريخية” التي اشتد ساعدها في الآونة الأخيرة، حتى اعتُمدت رافدًا من روافد علم التاريخ.

كذلك في بنية الجملة السردية عند المؤلفة، حيث الشاعرية النسبية، والإحكام المصنوع بتدبير صارم، والخلو من الحشو، علاوة على بعض الغموض، الذي إن كان ينطوي على سحر أخاذ وثراء ملحوظ، فإنه يفرض على المتلقي ضرورة بذل جهد فائق كي يحتفظ بيقظة تامة وحضور كامل، يؤهله للإمساك بالخيط الرئيس أو العمود الفقري للرواية، من دون أن يفقد فضيلة تذوق مواطن الجمال فيها، وهي عديدة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أوجه الاختلاف

أما وجه الانفصال أو الاختلاف فيكمن في أن “المرسى” أسلس وأجلى من سابقتها لسببين أساسيين، الأول أن المؤلفة تبدو هنا أكثر سيطرة على شروط حكايتها، سواء ما تعلق بطبيعة السرد أو بتفاعل الشخصيات الرئيسة والثانوية.

فالرواية انقسمت إلى فصول ستة، احتوى كل واحد منها على عناوين، هي في الغالب الأعم إما أسماء أبطال العمل مفردة أو في هيئة تفاعل بين اثنين منهم، أو بإضافة الشخص إلى المكان، أو بوصف الحالة والسلوك.

أما الثاني فيتكئ على قيام المؤلفة بتثبيت خلفية حكايتها بعناية، اعتمادًا على ذكر بعض الأحداث التاريخية المعروفة التي تشكل إطارًا زمنيًا للرواية.

كذلك الشخصيات الشهيرة مثل النديم ومحمد عبده وألمظ وإسماعيل صدقي، أو المؤسسات المعروفة –مستشفى قصر العيني–، والتركيز على حيز مكاني يمتد من السويس والقاهرة في مصر حتى جنوب السودان، ويسيح غربًا إلى دارفور وشرقًا إلى الحبشة، مرورًا بتوشكى والشلالات ومعبد أبو سمبل ودراو وصحراء العتمور، ثم ذكر بعض المعلومات المفيدة مثل بعض أحياء الخرطوم، وطبيعة حياة طائر الكركي، ورواق الطلبة السودانيين في الأزهر الشريف.

لهذين السببين فإن “المرسى” ليست مجرد نسائل حكي، كقطع الأرابيسك الصغيرة المتجاورة التي تفصل بينها فراغات كثيرة –كما هي الحال في “نوة الكرم”–، بل تبدو في بنائها العام كقطعة خشب كبيرة موشاة بالزخارف والنمنمات المتواشجة أو المعشقة بعناية.

اقرأ أيضاً: حكم “محمد علي” في رواية أدبية

الإبحار في الأزمنة

بل يمكن هنا استعارة ما أوردته الرواية نفسها عن صناعة بعض الأشغال اليدوية لنساء السودان، ليعبر عن البنية الفنية والجمالية لهذا العمل الأدبي، إذ تقول مؤلفتها:

“نساء السودان هن الأمهر في صناعة السلال والأطباق من أوراق شجر الدوم، بعد تقطيعها إلى شرائح رفيعة، لدرجة أنها كانت تحمل فيها الألبان والماء دون أن ترشح، وكذلك الأمر في ضفر الحصر من ورق الدوم وقش الشعير والقطع الجلدية، وبلغن من الرهافة والإتقان أن الحصر لا تستعمل فقط في فرش الغرف بل مفارش للمائدة”.

“المرسى” تعتمد على إبحار في الأزمنة، وتنقل سريع في الأمكنة، دون أن يفلت خيط السرد الأساسي من الرواة المتعددين، وأولهم المؤلفة ذاتها، ثم شخصيات الرواية التي تحكي بطرق مختلفة، فها هي ميشيل مثلًا تورد قصة توارتية ثم تتبعها بالقول: “أوه نسيت تقديم نفسي”، وتروي سيرتها، أو تقول المؤلفة بعد فقرة استهلالية بليغة: “وتواصل الحبوبة حكيها”.

هناك من يحكي عن غيره، وكثيرون يروون حكاياتهم الشخصية، وتبدأ بعض الفصول بالدخول مباشرة إلى الحكي، وبعضها يبدأ بتمهيد قد يكون تعريفًا للمكان ووصفًا له، أو مثلًا شعبيًا دارجًا، مثل ذلك الذي يقول: “عجب العجايب، حبل الست والرجل غايب”.

رواية المرسى تعكس البعد الإفريقي لمصر

نجوى شعبانهناك حرص عام على بدء أجزاء الحكايات بمفاتيح من أقوال مأثورة مقتبسة من كتب “كليلة ودمنة” و”مصر الخديوية”، أو منسوبة لأعلام مثل جرترود بيل وجورج سانيتانا ومختار العطار وواصف بطرس غالي.

يبقى الاختلاف الجوهري بين “نوة الكرم” و”المرسى” هو كون الأولى تدور أحداثها في القرن السادس عشر، وتمثل مدينة دمياط “الكوزموبوليتانية” آنذاك المكان الرئيس لها، لنرى كثيرًا مما كان يدور على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وفوق مياهه، ويشكل البعد “المتوسطي” للحضارة المصرية.

أما الثانية فتدور أغلب وقائعها في القرن التاسع عشر وتظهر ثنايا سطورها البعد الإفريقي لمصر، والدور الذي يلعبه النيل العظيم في تكوينها الاجتماعي والجغرافي والحضاري.

ترسم الرواية معالم حياة زاخرة بمسرات الآدميين وأوجاعهم، ويتحرك أبطالها على ضفتي وادي النيل وفي الصحراء ذهابًا وإيابًا بين مصر والسودان، فتنطلق القوافل من الثانية شمالًا، وتسير التجريدات العسكرية والبعثات من الأولى جنوبًا، فيمتزج شعبيهما في علاقات متعددة الصور والأشكال، ويجدا نفسيهما في مواجهة المؤامرات والمخططات الاستعمارية الرامية إلى نهب خيرات الوادي الخصيب.

بداية الرواية

تنطلق الرواية من لحظة وصول قافلة قادمة من أسيوط إلى دراو ،في وقت يتجه فيه مرسال إلى صعيد مصر لإحضار القبطان العوام الذي ساهم في اكتشاف منابع النيل، كي يفض نزاعًا نشب نتيجة إصرار الأجانب على استبدال عاج الفيل بخرز زجاجي ملون.

تنتقل من هذا المشهد الأول إلى عرض حكايات تتوالى على مهل، وتشكل مسارات متوازية، تأخذ في المجمل الأعم شكل أنصاف الدوائر المتجاورة، إذ يسرد كل فصل جزءًا من الحكاية الأساسية، ويظل مفتوحًا ينتظر استكمالها في فصل آت، ليس بالضرورة الفصل الذي يليه.

تقوم الحكاية الأم وما تلده من حكايات صغيرة على أكتاف شخصيات تنتمي إلى زمانها، المعتق بالأساطير والأحلام والأمنيات العريضة في تحسين شروط الحياة.

اقرأ أيضاً: يوميات بني مجد

شخصيات الرواية

شخصية الحبوبة

أولى هذه الشخصيات هي الحبوبة/ الجدة، وهي امرأة سودانية عجوز عاشت ما يربو على قرن من الزمن وتُدعى حكاية، وتبدو اسمًا على مسمى، لأنها تمتلك قدرة هائلة على التخاطر، تجعلها تعرف كل ما يدور من وقائع وأحداث لشخصيات الرواية في مصر والسودان وبلاد الحبشة.

الجدة ماكيدا وزينب الدارفورية

ثم تأتي شخصيات تنتمي إلى أسرتين أساسيتين، الأولى تضم الجدة ماكيدا وهي أميرة حبشية وبنتها حكاية، وحفيدتها شامة التي أحبت طبيبًا يعمل في الدائرة الاستوائية، وسافرت معه إلى السودان فمات بمرض فتاك، وعملت هي ممرضة في السودان، وتعرضت لحادث اختطاف وافتدتها جدتها، التي كان جدها قد خسرها في لعب القمار، حين تحل شامة بالحبشة تدلنا الرواية على بعض أخبار الرهبان المسيحيين المصريين الذين كانوا يعيشون في الحبشة آنذاك.

الثانية تضم زينب الدارفورية صانعة الحصر وبنتها عجوبة، وحفيدتها غنية البارعة في تركيب السموم العطرية، والتي تعمل جاسوسة لحساب الفرنسيين، وترسل إليهم رسائلها تحت جلود الجمال الحية الذاهبة في قوافل من مصر إلى السودان، ولغنية هذه عبدة أو خادمة تدعى مرحبة، التي تعمل دومًا على التسرية عن سيدتها، فتأخذها إلى ساحرة –سيدة روحانية– تدعى كاجورة لتدخل بنا الرواية في عالم أسطوري مذهل.

الوجيه وغاية

لكن الأسطورة تبلغ ذروتها في مطلع الفصل الرابع من الرواية وتمهد لها المؤلفة باقتباس عن لورانس العرب يقول: “إن التاريخ لا يتكون على أية حال من الحقائق، فلماذا القلق؟”، لنعرف بعده أن بعض شخصيات الرواية مثل الوجيه وغاية هما شخصان كانا يعيشان في مطلع القرن التاسع عشر، وماتا ثم عادا إلى الحياة.

هنا تخبرنا الرواية: “بعد أن لقيا حتفهما، كل في حادث يخصه، هام كل من الوجيه وغاية دون هدف في الفضاء، ليصبحا مثل زومبي خرج من القبر بتصريح للقرن 21”.

تحفل الرواية بشخصيات عديدة لها وضعها ودورها في بناء الحكاية الكلية وفي تقدم الرواية إلى الأمام باتجاه النهاية، وفي صناعة مساحات التنافس والصراع بين الأفراد من أجل الظفر بالنصيب الأكبر، سواء من الثروة أو المكانة أو النفوذ في مجتمعات تتسم بندرة كل شيء.

حسان الجواب

من بين هؤلاء “حسان الجواب” الذي يؤدي التواشيح في مولد أبي الحسن الشاذلي بحميثرة، و”ميشيل” التي ولدت لأب سوري وأم فرنسية جاءت إلى مصر في رحلة سياحية، وجدها ظل بمصر حتى وافته المنية.

هناك “زينب الدارفورية” التي تصنع حصرًا ترسم عليها وجهها الذي ينطوي على سحر خاص، وتوجد “التومة” التي تبيع الأعشاب الطبية المستوردة من شتى بقاع الأرض، و”لام” التي اختطفت من حضن أم شابة وربتها سيدة مسيحية سودانية من أصول مصرية، و”الضو” الذي سدت أمامه سبل العودة إلى تجارة العاج، فعاد إلى مهنته الأولى كقاطع طريق، و”الواسطي” الرحالة الذي يركب البحر ويصف رحلاته الطويلة الممتعة.

بلام الأسد

هناك شخصيتان محوريتان هما “بلام الأسد” الرجل المغامر الذي يعمل في أحد المناجم، و”الوجيه” القاسي الذي يشرف على العديد من المناجم والمواقع الأثرية، ويحلم أن تكون له فصاحة عبد الله النديم وسطوة إسماعيل صدقي وفتنة إسماعيل المفتش أخو الخديوي، ويتقمص هذه الشخصيات دومًا، فتتبدل سلوكياته بامتداد الرواية.

تجري أفعال هذه الشخصيات في عالم زاخر ترسم المؤلفة معالمه باقتدار، لتحكي لنا تفاصيل العمل في المناجم، وما يجري في موالد الطرق الصوفية، والحفلات الراقصة التي يحييها الخصيان، وطرق مواجهة الأمراض الفتاكة التي تجتاح السودان، والأعشاب التي تشفي من الأوجاع أو تقوي الغرائز الجنسية، وصناعة السفن والمراكب، وأنواع وألوان الأزياء التي يرتديها الناس، والمساكن والبنايات البسيطة التي يقطنونها، طرائق العيش الذي يحيونه.

السلوكيات التي تبدر عنهم، واللهجات التي ينطقونها، والتي حرصت المؤلفة على أن تبين معانيها، في المتن والهامش معًا.

المرسى لوحة نيلية عتيقة موشاة بزخارف أسطورية

نجوى شعبان

تستعين المؤلفة بحكايات ووقائع مطولة من التاريخ، إلى درجة أنها تفرد مساحة سردية كبيرة لمقارنة على لسان “سليم” المؤرخ، بين معركة طبرية بين قوات الملك جي دولوسينيان ملك القدس وقوات صلاح الدين الأيوبي في يوليو 1178، وجردة هكس التي وقعت في فبراير 1883 بين الحملة المصرية بقيادة الجنرال وبين جيش المهدي.

لكن هذه الحكايات يتم توظيفها داخل النص إما لتفسره أو تجلي غموض بعضه أو تعطيه إطارًا زمانيًا، وهي في جميع الأحوال لا تطغى على سرد تاريخ الناس، وهي وظيفة أساسية للرواية التاريخية تقاوم بها الفعل السيئ لأغلب المؤرخين بتسجيل أيام السلاطين وأتباعهم.

إن “المرسى” تؤكد عمق المسرب الضيق الذي حفرته نجوى شعبان لنفسها، وسارت فيه مطمئنة إلى الحصاد الوفير الذي تجنيه، من استلهام التاريخ الشعبي وهضمه وإعادة إنتاجه على شكل قطع سردية بليغة، ترسم لنا طرائق عيش تراوح بين الواقع والأسطورة لآدميين يسابقون الزمن ويقطعون المسافات الطويلة من أجل تحسين شروط الحياة.

مقالات ذات صلة:

يجب أن تسأل عقلك: ماذا يريد أن يقول المؤلف؟

لماذا نكتب؟

رائعة الكاتب الألماني فرانز كافكا “المسخ”

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري