ميزان العلم …. كيف نحمي نفسنا من قطاع الطرق
العلم والتعليم!
إذا نظرنا إلى نصائح كثير من مشاهير السوشيال ميديا (المثقفين) ومدربي التنمية البشرية للشباب عن أهمية التعليم والقراءة وعن أهمية حضور الدورات التدريبية فى المجالات المختلفة، وعن عدم الاكتفاء بالشهادات الجامعية… وغيرها من النصائح المتواترة، فإننا سنلاحظ أن هناك غاية مشتركة يحثون الشباب على السعى إليها، وهذه الغاية هى صناعة مستقبل أكثر تطورا ونجاحا فى مختلف جوانب الحياة… بالطبع نجد أن الجانب الأكثر حضورا وطغيانا فى هذه الجوانب هو الجانب المهنى، وهذا بديهى لأن الناجح هو من يستطيع استغلال علمه ومهاراته ليصنع مجده الخاص، وذلك بأن يتم قبوله فى إحدى الشركات العالمية أو عن طريق عمل مشروعه الخاص، وقد تأتى بعد ذلك الإشارة لأهمية العلاقات الاجتماعية والأسرية وأهمية الالتزام بالعبادات وأهمية أن لا تطغى إحدى الجوانب على الأخرى، وقد لا تأتى الإشارة…
المعلم الجاهل يقطع الطريق على طالب العلم
إن الرؤية التى عرضناها فى الفقرة السابقة تعد الإجابة التى يقدمها هؤلاء الموجهين لبعض الأسئلة المصيرية التى تشغل بال كل إنسان، وهى “لماذا نحن هنا وكيف نتعامل مع الحاضر لنصل إلى مستقبل أفضل”، وهؤلاء الناصحين قد رأو فى أنفسهم المرشدين إلى السبيل الصحيح الذى ينبغى على الشباب أن يُفنوا أعمارهم فيه! ويمكننا تلخيص رؤيتهم التى يحثون الشباب عليها فى التالى: “لا تتوقف عن التعلم إذا أردت مستقبلًا أفضل، والمستقبل الأفضل يعنى أن تكون “نمبر وان” مهنيا قبل أى شىء آخر، ولا تغفل عن باقى جوانب حياتك حتى تصنع التوازن المطلوب”
وهذه الرؤية قد يتبناها مؤمن أو غير مؤمن، فإذا كان غير مؤمن فهو معزور لأن هذه الإجابة تتوافق مع رؤيته للوجود، أما إذا كان مؤمنا فهو إما أنه لم يفطن إلى أن المخلوق العاقل يسأل خالقه عن “الغاية” التى خلقه من أجلها وعن “سبيل تحقيقها” ولا يضعهما بنفسه وإلا فإنه يتأله مع الله دون أن يشعر، أو أنه يظن أن الغاية التى خلقنا الله من أجلها هى إفناء أعمارنا فى العلم الذى يؤهلنا للترقى الوظيفى المستمر، وهذا التصور يجعل من إحدى الوسائل التى من المفترض أن توصلنا للغاية من وجودنا إلى غاية فى ذاتها، وفى الحالتين فإننا كمتابعين لهؤلاء المشاهير أو كمتدربين وطلاب علم لدى من يشابههم فى الرؤية قد نقع فريسة لجهل غيرنا، ومن ثم تضيع أعمارنا وتُهدر جهودنا فيما يبعدنا عن غاية وجودنا من الأساس، فكيف نخرج من هذا المأزق وكيف نضمن أن لا نقع فيه؟
أهمية الميزان لدى طالب العلم
يطرق الباب قائلا: استيقظ يا سقراط؛ بروتاغوراس فى المدينة!
سقراط: ما الذى أتى بك فى ساعة كهذه يا هيبوقراط؟
هيبوقراط: أٌريدك أن تأخذنى إلى بروتاغورس وتقنعه بتعليمى لكى أصير مثله يا سقراط.
سقراط: لا بأس سنذهب معا إلى بروتاغوراس، ولكن قل لى ما الذى سيعلمه لك بروتاغوراس؟
هيبوقراط: سيجعلنى مثله يا سقراط سفسطائيا ومثقفا.
سقراط: ولكن هل تعلم حقا من هو السفسطائى؟ وما العلم الذى يبرع السفسطائى فيه؟ قل لى فإنك إن كنت لا تعرف، فهذا يعنى أنك تُسلم نفسك لمن تجهل ما إن كان سيجعلك صالحا أم طالحا يا صديقى!
هيبوقراط: أعتقد أنه رجل عليم بأمور علمية، وهو عالم أيضا بفن مهارة الكلام.
سقراط: قد يكون جوابنا صحيحا ولكنه يستدعى سؤالا آخر: أليس الموسيقِى هو من يعلّم مهارة الكلام فى الموسيقَى؟ فما هى الأمور العلمية التى يجيد السفسطائى تعليم مهارة الكلام بشأنها؟
هيبوقراط: وحق زوس، لا أدرى يا سقراط.
سقراط: أليس السفسطائى يبيع ما تحتاجه النفس لتتغذى به كما يبيع التاجر ما يحتاجه الجسد؟
هيبوقراط: أجل يا سقراط.
سقراط: إذن فعلينا أن نحذر من أن يخدعنا السفسطائى بمدحه لبضاعته حتى الفاسد منها؛ فالتاجر لا يميز بين النافع والضار فيما يخص بضاعته ولكنه يزينهما لنا بلا استثناء، وكذلك المشترون فهم أيضا لا يعرفون النافع من الضار إلا إذا صادف وكانوا أطباء أو أساتذة فى رياضة البدن!
هيبوقراط: أظن ذلك يا سقراط، ولكن هل يفعل السفسطائى مثلما يفعل التاجر؟
سقراط: قد يفعل ذلك من أجل المتاجرة ببضاعته وقد يفعل ذلك جهلا منه بحقيقة بضاعته يا صديقى، وبناء عليه فإذا كنت على بينة من أمرك وتعرف كيف “تميز” البضاعة التى تنفع النفس والتى تضرها، وقتها يمكنك شراء بضاعة بروتاغوراس أو غيره، وإلا فاحذر اللعب بالنرد خصوصا عندما يتعلق الأمر بأعز ما لديك يا صديقى “نفسك”.
خلاصة القول
من ما سبق يمكننا أن نخلص إلى أنه قبل الشروع فى تلقى العلم من غيرنا “شخص كان أو كتاب” علينا أولا أن نبحث عن ميزان تقييم العلم الذى سيمكُننا من معرفة الصالح من الطالح فيما يُعرض علينا، هذا هو أولى الأولويات التى لا ينبغى على الإنسان الجهل بها؛ لأن حياتنا تتلخص فى “علم” و”عمل” ناتج عن هذا العلم، فإذا فسد العلم بحقيقة الوجود والغاية منه وسبيل تحقيق هذه الغاية فسد العمل. غير أننا باقتنائنا للميزان السليم سنصبح أكثر انتقائية وسنوفر على أنفسنا الغرق فى طوفان المعلومات الملىء بالتناقضات والتفسيرات المتعارضة لنفس القضية… وأخيرا علينا أن نختار من أى الفئات نحن فى ميزان قول الإمام على:
“النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ” الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، الْعِلْمُ يُكْسِبُ الْعَالِمَ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ. مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ”
اقرأ أيضاً:
تنشئة الأجيال الجديدة وعملية التعليم –المعلم الفاضل يبني إنساناً للمجتمع
يعني ايه تربية ؟ ( الجزء الأول ) – ما المقصود بالتربية ؟ وما هو تأثير القدوة ؟