مهما فعلت.. مستقبلي ورائي يا جاهل.. القضية حية
تعلم الدنيا كلها أن تاريخ إسرائيل في المنطقة العربية من بداية الهجرات اليهودية في القرن الماضي، ارتبط ارتباطًا شديدًا بكلمة “مذبحة”، وهي الكلمة التي فيها من الدلالة ما يكفي لتوضيح معانيها الكامنة فيها.
المختصون بتاريخ القضية الفلسطينية رصدوا المذابح كلها التي قام بها الغرب في هذه الأرض المباركة وسجلوها ووثقوها، تمهيدًا لإخلائها من سكانها الأصليين، وإحلال سكان جدد له في وجودهم مصلحة كبرى.
من لحظة دخول اللورد اللنبي (الإنجليزي) سنة 1917م، إلى الساعة التي تسلمت فيها إسرائيل قنابل الـ”جيدام” من بايدن (الأمريكي) وضربت بها تجمعات الفلسطينيين العزل، في المواصي السبت 13/7/2024م.
لا أتصور أنهم يقومون بعملية إبادة بالمعنى التاريخي الذي رأيناه في أمريكا وأستراليا، الدكتور عبد الوهاب المسيري شرح لنا سبب عجزهم عن ذلك، وإن كان من أعظم أمانيهم.
كما لا أتصور أنهم كانوا يقصدون الوصول إلى “أبو خالد” الحاج محمد الضيف، ليس فقط لأنهم حاولوا وفشلوا عدد من المرات، على نحو يجعل أي عاقل لا يكرر المحاولة.
سيكون هامًا هنا تذكر الرجل الجاهلي البسيط “سراقة بن مالك” الذي كان يتتبع خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ليبلغ به قريش يوم الهجرة. ووجد نفسه عاجزًا عن مهمته على نحو ملفت للنظر، ففهم أن الموضوع أكبر من البشر وقدرات البشر فقرر الرجوع فورًا، وأسلم بعدها رضى الله عنه.
لمزيد من الفهم هنا، سيكون أمرًا هامًا، وجدًا جدًا، أن نتذكر المقولة الشهيرة لداني ياتوم (79 سنة) رئيس الموساد الأسبق، الذي قال في مقال مبكر بعد الطوفان (في 31 أكتوبر)، كلامًا يفهم منه نفس الفهم الذي كان قد التقطه فورًا سراقة بن مالك، وشتان بين الاثنين!
ماذا قال داني من عشرة شهور؟ قال: “ما الذي يحدث؟ هل تخلى عنا رب موسى وهارون؟ لا أفهم ماذا يحدث!”، وأضاف: “هناك قوة خفية تساعدهم وتحارب معهم، كأن لديهم قمرًا صناعيًا!”.
قائل هذا الكلام، درس الفيزياء والكمبيوتر، وكان رئيس الموساد من 1996/1998م، وبعدها عمل مستشارًا أمنيًا لإيهود باراك (82 سنة) عاشر رئيس وزراء لإسرائيل، ووزير دفاعها الأكثر شهرة.
حديث رئيس الموساد الأسبق يشير إلى أن ما يجري في غزة من صباح 7 أكتوبر وإلى اليوم، حدث يجري على الأرض، لكنه موصول وصلًا متينًا بالسماء، بقدرة الواحد القهار.
على أن المسألة لا تقف فقط عند تصريح الرجل الفيزيائي المخابراتي، فنحن نرى ونسمع من الأبطال ما يقول لنا قولًا مؤكدًا، أنهم قاموا بما قاموا، في سياق المعنى الواسع للإيمان بالله واليوم الآخر والبعث والحساب، وتصديقًا ويقينًا بما ورد في القرآن الكريم، بخاصة في سور: آل عمران والأنفال والتوبة.
سواء في آيات العبر والاعتبار (قتال يوم بدر وأحد)، أو في آيات الأمر الإلهي إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل وقت وحين وإلى يوم البعث والدين، تسليمًا وتأكيدًا، لكل ما هو راسخ في أعماق القلب والعقل.
صحيح هم فلسطينيون حتى سابع جد، وهذه أرضهم وديارهم، وصحيح هم حركة مقاومة وتحرير إنسانية، تنظيمًا وتخطيطًا وتنفيذًا، ويعيشون في مجتمع زمانهم، لكن الأصح أنهم وضعوا ذلك كله في مكانه الصحيح تمامًا من نفوسهم وضمائرهم، وفي مكانه الصحيح تمامًا من تاريخهم وتاريخ أمتهم.
وفي مكانه الصحيح تمامًا من النظر والتقدير لطبيعة العدو الذي يواجهونه مباشرة على أرض الميدان المباركة، في فلسطين “العدو الصورة”، أو على نحو غير مباشر، على أرض التاريخ الممتد مع “العدو الأصل” الغرب الأورو/ أمريكي. وهو ما كان إيذانًا بإحياء جديد، لحالة كانت غائبة ومُغيبة عمدًا، خافية ومُخفاة عمدًا، محصورة ومُحاصرة عمدًا.
العمد وسبق الإصرار والترصد هنا أشهر وأوضح من الجدل والنقاش بشأنه، وموضوعه التاريخ على أي حال، ولدينا ما يكفي منه لتفسير تطوره، وهو تاريخ حي وقريب وموصول.
فثورة 1920م كانت موصولة بثورة البراق 1929م، وكانت تلك موصولة بثورة عز الدين القسام 1935م، التي بدورها كانت موصولة بثورة فلسطين الكبرى 1936م (أمين الحسيني).
هي موصولة أيضًا بالثورة الفلسطينية المعاصرة (حركة فتح وعملية عيلبون يناير 1965م)، لكن…
لكن هنا سيكون الوصل منقوصًا، لماذا؟ لأنها كانت في الستينيات الشهيرة بأفضح خطأ تاريخي وأفدحه، أصاب الأمة كلها في الصميم، وهو الخروج عن النص الأصلي الصحيح للموضوع، والانخراط الساذج في فوضى السياسات الكبرى التي بدت براقة وقتها، وسرعان ما ساءت وأساءت، وسرعان ما أصبحت وهمًا وسرابًا.
وآه، لو ندرك أشكال النفس، كما ندرك أشكال الهندسة، لما عانينا مع العقول الضيقة، كما قال لنا الأديب الفرنسي “أناتول فرانس”. فقد بدأت فورًا الإملاءات العنيفة بنصوص أخرى، استبدالًا لما هو أصل (تزوير وتزييف؟)، ولما هو صحيح (انحراف وجهل؟)، وسردًا خطيًا للأحداث وبخطوات هادئة متمهلة على هذا الخط التاريخي، من هزيمة 5 يوينو 1967م، إلى أوسلو 13/9/1993م، ستجد أن التتابع والترتيب في أبرز أحداث هذا الخط كان ترتيبًا منسقًا مقصودًا ومتصلًا.
هذا كله ورغم فداحته وخباثته لا يهم! نعم لا يهم الآن، لماذا؟ لأن الطوفان جاء وأعاد ترتيب كل شيء على ما كان ينبغي أن يكون عليه، وكُشِف كل ما كان من أحداث الخروج عن “النص الأصلي” وتعرّى لوقائع الحال وواقعه.
الرائع أنه حين جاء، لم يتهم أحدًا ولم يهاجم أحدًا ولم يشتم أحدًا، وهذا من روائع روائعه. هو فقط عرف أنه مدعو بقوة لأداء دوره التاريخي، الشاهد والشهيد، فلبى الدعوة بكل قوة وبكل وعي، وبكل إعداد مما استطاع.
فكانت منه وبه وله ولنا “الفئة القليلة” ذات الشهرة الكبيرة في الثقافة الإسلامية، التي ستغلب بإذن الله، [قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)] سورة البقرة.
هذا وعد الله، ووعد الله حق [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)] سورة الروم.
فيا من يعادينا، وما لنا ذنب إليه غير أحلامنا.
هذه رحيق ما لها كؤوس، فكيف نسقيها للوامنا.
مقالات ذات صلة:
كيف نشأ الكيان الإسرائيلي الصهيوني؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا