فن وأدب - مقالاتمقالات

من خلف النظارة السوداء

يرى بلزاك أن ثلاث قصص جيدة في مجموعة واحدة تكفي لندرك أننا أمام كاتب لديه ما يقوله وكتاب يستحق القراءة بلا تردد، ومؤلف كتاب “من خلف النظارة السوداء” الأديب الشاب محمد أيوب عبد المنعم، عَبَر ذلك الرقم، واستطاع أن ينبه الحواس، ويوقظ الخواطر، ويداعب الأذواق والمواجيد، ويلفت الانتباه إلى موهبة تنضج على مهل، وإلى قلم يجب أن يحفر طريقه في ثقة بمزيد من القراءة، بلا حدود وفي أي اتجاه.

في بعض هذه القصص تولد لديك الدهشة، وفي أخرى يتهادى إليك التأمل، وتنبت عاطفة جياشة على ضفاف الروح، فهنا قدرة مناسبة لتشكيل لغة جميلة، وإمكانية لا بأس بها لبناء عالم حافل بالمفارقات والرؤى، موزعًا نفسه على الحب والثورة وكفاح البشر المرير من أجل الانتصار على القهر والصمت والاغتراب والانسحاب.

قصة “وعاد مهزومًا”

في بعض هذه القصص تجد نفسك تواجه أسماء شخصيات تعرفها، مثل خالد سعيد وجيكا، وتلقى شوارع ساخنة شهدت معارك ومصادمات بين شباب غاضب ورجال الأمن، وتجد علاقات سياسية مباشرة، كأن يقول مطلع قصة أخذت عنوان “وعاد مهزومًا” من دون مواربة: “بعد محاولات فاشلة لإحياء الحركة الطلابية، وإعادة أمجادها، وذريعة انتقام أمن الدولة منه، تخرج أحمد صابر من كلية التجارة بتقدير مقبول، ودور ثانٍ، بعد سبع سنوات من التحاقه بها. أيامه داخل الحرم الجامعي سخَّرها لِبَث روح المقاومة مرة أخرى داخل شباب لم يتلوث بعد”.

قصة “ضريبة الانتماء”

هنا يضع المؤلف يده على مرحلة “التخمر الثوري”، ليصل بنا إلى بداية قصة أخرى تحمل عنوان “ضريبة الانتماء” تبدأ مباشرة لتقول: “أجمل فترة عشتها في حياتي تلك الفترة التي أعقبت الــ18 يومًا الأولى في ثورة 25 يناير، كانت أيامًا في غاية الجمال، كأن السماء فجأة أمطرت حبًا وإخلاصًا لهذا الوطن”.

لكن ليس كل القصص عن الثورة، وليست كل الجمل بهذه التقريرية، فالكاتب يمتلك قدرة على نسج عبارات فياضة بالجمال، لا سيما في أقاصيصه التي ترسم ملامح تجربة عاطفية مريرة، أو التي تغوص في القيعان البعيدة للمدينة لتلتقط بعض الوجوه الكادحة، والشباب المفعمين بالأمل، وتطرحها على الورق في صور حميمة، وبكلمات مباشرة، تعانق الفصحى فيها العامية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قصة “الخطاب الأخير”

من خلف النظارة السوداء

لعل قصة “الخطاب الأخير” وهي الأخيرة في المجموعة، كانت الأعذب من الناحية اللغوية، وهي عبارة عن خطاب يوجهه عاشق إلى فتاة وقع في غرامها، يبدأه بالقول: “حبيبتي، اليوم أخيرًا انتفض قلمي من سجن عجزه، قاوم واجتهد وأخيرًا فر هاربًا، فر هاربًا كي يكتب لك، ويوضح ويصحح أخطاءه، لم يهرب من أجل تقديم صكوك الغفران لك، لكنه جاء شامخًا ليهزم فشله، فلا تتعجبي”.

لا يدعك الكاتب تدخل إلى دنياه الجديدة إلا وأنت تقف في صفه وتضع يدك على كتفه، حتى ولو من قبيل الحدب الإنساني أو الحياء، حين يهدي ما خطه بنانه هنا إلى أبيه الذي رحل عن دنيانا منتظرًا أن يحقق الابن وعده له بألا يكون عابرًا كأغلب الناس، بل يترك خلفه علامة راسخة مضيئة، ويكون ما يريد.

بالتالي فالإهداء في هذه المجموعة هو أحد مفاتيح قراءتها، إذ يقول: “الشخص الوحيد الذي كنت أريد أن أرى سعادته بطباعة أول مجموعة قصصية لي، لولا طيفك الذي يؤنسني كل ليلة في منامي لكانت انتهت حياتي منذ وفاتك يا أبي، ها أنا أكمل الطريق الذي تركتني في أوله، وأفي بالوعد الذي قطعناه سويًا، سأكون ما تريد أن تفخر به، فنم مطمئنًا إلى أن نلتقي”. وأعتقد أن أيوب سيحقق مع الأيام، إن شاء الله، ما تمناه له والده.

“من خلف النظارة السوداء” قصص تراوح بين براءة التجربة الأولى والرغبة العارمة في التحقق، اتكاء على معنى ليس بالقليل، وفن ليس بالضئيل، وتجربة تحتاج بمرور الأيام إلى الخروج من سجن الذات إلى رحاب الحياة بأفراحها وأتراحها.

مقالات ذات صلة:

 رواية “كيرياليسون”

مراجعة فيلم “في هذا الركن الصغير”

نظام التفاهة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري