إنّ محاولة عقلنة مفهوم السياسة كان وما زال الشغل الشاغل للفلاسفة السياسيين وكل من اهتم بالفكر السياسي بوجه عام، فمحاولة إيجاد مفهوم عاقل عن السياسة وتعريفها تعريفًا صحيحًا كانت هي الخطوة الأولى دائمًا نحو إيجاد صيغة للممارسة السياسة تعود بالنفع الخاص والعام على المجتمع وكذلك تنمّي القيم الأخلاقية، لذلك علم السياسة هو علم متشعّب في ذاته ولا يتقوّم من ذاته كعلم مستقل، فلا يستطيع علم السياسة أن ينفك عن علم الاجتماع وعلم النفس والأخلاق وكل هذه العلوم في النهاية تخضع في النهاية إلى الفلسفة، ديكارت الفيلسوف الفرنسي الكبير كان يقول “إنّ العلوم جذورها الميتافيزيقا -الفلسفة- وجذعها الفيزياء وفروعها الطب والفلك والميكانيكا وثمارها الأخلاق”، مما يوحي لنا أنّ كل العلوم هي مترابطة في النهاية وأنه يجب لصاحب العقل الواعي أن يكون له نظرة في كل هذه العلوم المختلفة إذا ما كان مهتما بالشأن السياسي.
فيجب التوقّف أوّلا عند تعريف كلمة السياسة، كذلك تعريف الأخلاق والفلسفة، فمثلًا الإنسان المعتقد بصحة الفلسفة المادية مثلًا- وهي الفلسفة التي تقول بمادية هذا العالم ولا تقبل تعريفا للعالم إلا في إطار المادة كذلك لا تقبل وجود أي علم غير العلم المادي التجريبي البحت- صاحب هذه الفلسفة بالتأكيد سيكون له تعريف للسياسة يختلف تمامًا عن المعتقد بصحة الفلسفة الإلهية مثلا- الفلسفة العقلية المعترفة بالعالم الماورائي وبعلوم ما وراء الطبيعة مثل اعترافها بالعلوم الطبيعية أيضًا- لأنّ الأول المعتقد بالفلسفة المادية سيرى هذا العالم من منظور مادي غير روحي وبالتالي ستكون نظرته لعلم الأخلاق مختلفة أيضًا تمام الاختلاف فستكون النظرة الأخلاقية منحصرة في إشباع الرغبات المادية للمجتمع و الفرد.
مثلا المذهب الأخلاقي النفعي لتوماس هوبس الذي كان يرى أن الأخلاق تتمثل في إشباع رغبة الفرد وفقط وأن الدافع لأي فعل هو إشباع هذه الرغبات ولكن هذا المذهب تطور على يد ستيوارت مل وأستاذه بنتام ليشمل الأخلاقية النفعية بالمعنى العام وهي إشباع الرغبات بشكل عام عند بنتام على سبيل المثال وللأسف المجال لا يتسع لسرد تطور هذا المذهب بشكل مسهب، ونجمل القول حول هذا الإتجاه الأخلاقي أنه يتشابه مع مذاهب أخلاقية مادية أخرى كالمذهب البرجماتي العملي مثلا لصاحبه ويليام جيمس -الفيلسوف الأميركي الجنسية ومؤسس علم النفس التجريبي- الذي كان يرى أن الأخلاق تنحصر في مدى نجاعتها العملية حتى لو كانت أسسها النظرية فيها خلل في رأيه، فإذا نجحت عمليا فهذا تبيان على جودتها وصحتها وهذا اتّجاه خطير ربما يحتاج نقضه إلى بحث كامل، مجمل القول حوله أنه اتجاه متناقض يناقض نفسه فالناجح اليوم يفشل غدا، كما أن معيار النجاح في المذهب البرجماتي به كثير من اللغط ولكن كما قلنا سنورد هذا في بحث خاص شامل بهذه الفلسفة إن شاء الله .
تلك نبذة مختصرة جدا عن الاتّجاهات الأخلاقية المادية الحديثة وهي كما نرى تفسر الأخلاق والأفعال الإنسانية كلها تفسيرًا ماديًا وهي تتناقض بالطبع مع التصورات الأخلاقية في الفلسفة القديمة – الفلسفة اليونانية – و الفلسفة الأخلاقية الدينية في الإسلام والمسيحية التي تدعو للفضائل الروحية وإعلاء القيم كالعدالة والرحمة والمساواة والتضحية، فكان أفلاطون يعتقد أنّ الفضيلة الأسمى هي العدالة النابعة من سيطرة العقل أو الحكمة على أفعال الإنسان و في ذلك تبعه عديد الفلاسفة كالفارابي وأرسطو وعدد لا بأس به من الفلاسفة الذين كانوا يرون في هذه الحياة قيمًا أعلى من المادة والمصلحة والمنفعة، وبسبب تغير هذه النظرة الأخلاقية للأفعال الإنسانية تغيرت فكرة علم السياسة بين الاتجاهات الفلسفية المختلفة.
فالسياسة هي علم إدارة شئون المجتمع هذا يتفق عليه الجميع ولكن بمقتضى ماذا؟! وما هي المرجعية الأخلاقية التي يدار بها هذا المجتمع هل هي عدالة أفلاطون أم نفعية بنتام و مل أو برجماتية جيمس أو قوة نيتشة الذي كان يعتقد بأفضلية القوة على سائر الفضائل، وأن القوة هي المعيار الأول للأخلاق، وبالقوة فقط لا غيرها يكون صلاح المجتمع، وأخلاقية هذا المجتمع تتمثل في الخضوع لهذه القوة. كان نيتشة يرى هذا وهو الفيلسوف الألماني متأثرًا بأقوال مكيافيلي وبعض قدماء السفسطائيين حول أفضلية القوة، كما نرى أنّ المذاهب الأخلاقية مختلفة إختلافا كبيرًا في تفسيرها للأفعال الإنسانية ومتطلباته، ولما كان المجتمع هو اجتماع الأفراد كل منهم في حاجة إلى هذا الاجتماع ليكمل احتياجاته العقلية عن طريق التربية والتعليم والمادية كذلك من مأكل وملبس ومسكن كان من الضروري النظرة في سلوك الفرد أولًا وتفسيره وبتفسير الفرد وتعريفه تعريفا صحيحا وبذلك يتم تعريف السياسة تعريفًا دقيقًا صحيحًا .
الكواكبي كان يقول: “السياسة هي إدارة شؤون المجتمع بمقتضى الحكمة”… فالحكمة تورث العدالة بالطبع، ومن العدالة أن يطّلع الإنسان على المذاهب السياسية المختلفة لينتقى منها ما يناسب عقله ومعتقداته، إنّ هذه السطور ليست تنظيرًا لاتجاه أخلاقي معين ولا رأي سياسي بذاته وإنما هي محاولة بسيطة من قلم متواضع للتنظير نحو فكرة معينة، الفكرة تقول حقيقة مفادها أنّ الإنسان أرقى من أن يسجن في سجن الأفكار المفروضة عليه، على الإنسان أن يسعى نحو الاطّلاع ونحو معرفة الحقيقة بما هي، فإذا كان الإنسان يسعى نحو إيجاد مجتمع سياسي أفضل عليه أوّلا أن يسعى نحو إيجاد تعريف أفضل لماهية السياسة أو ما هي السياسة في ذاتها وذلك لا يتأتي إلا لكل باحث عن الحقيقة ينشدها كما ينشد الهواء والماء، أعلم أن المسألة صعبة ولكن مسيرة المعرفة مسيرة نضال، نضال خالص لا يخلص إلا للحقيقة ولا يخضع إلا للبرهان.