مقالات

منشار الترند الإعلامي وقذائف اليمن

اليمن والصراع الغامض!

هؤلاء هم الأطفال وشغف الطفولة يحركهم، دافع الفضول لديهم يدفعهم للاستكشاف وكثرة الحركة، وقد وجدوا ضالتهم في مدرستهم حيث الصحبة واللعب والضحكات اللاهثة بأنفاس الجري المتقطعة، لوحة فنية متناثرة الأجزاء بتلقائية صاغتها ألوان زيهم المدرسي الموحد، على خلفية سجادة رمال فناء المدرسة الأصفر، تبقى نقطة ارتكاز هذه اللوحة وتشابكها هو قائد مجموعة هؤلاء المشاغبين الصغار وهو الطفل “عمر”.

وفجأة انقلب نسيم ضحكات الأبرياء الصغار لموجة من الغبار المقبض، وتتناثرت معها أتربة الفزع والصراخ، وتهاوى الأطفال فوق بعضهم هرباً ورعباً.

من بين نثار الغبار الأصفر يختبئ المشاغب “عمر” خلف ما تبقى من حطام جدار كان فيما مضى سوراً كبيراً يحاوط مدرسته، يصرخ بصوت طفولي مرتعش ” اختبئوا… لا يخرج أحد في الفناء… اختبئوا”.

صرخاته الرقيقة اختفت أمام هدير محرك عالٍ كسر بصوته حاجز براءة الأطفال، حيث لاحت في السماء طيارة حربية ضخمة، تستعد لتجثم بجسدها على ما تبقى من بلادهم وتدنس محراب تعليمهم الصامد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نجا “عمر” من مذبحة هجوم المدرسة المفترس، ليواجه ما هو أقصى من القتل بالقنابل الحارقة، هذا الطفل المشاغب كُسرت براءته أمام طوفان القتل البارد، يا ليته مات مثل أقرانه في ذلك اليوم، بدلاً من أن يواجه الموت البعيد المنال الآن، مادام الموت هو مصيره في النهاية، ولربما بموته تحيا وتصمد عزيمة بلاده ولا تنكسر أمام هذا الغزو السافر.

يستلقي “عمر” على لوح خشبي كان سريره فيما مضى، وسط أطلال مدمرة احتمت بها أسرته وتترك لخيالها ذكريات منزل، قد نالت منه تلك الأسراب الجوية الحربية الضخمة وقذائفها، التي انهالت عليه تحت شعارات براقة من الحرب على الإرهاب ومكافحة التمرد.

كسرت الحرب أمل الطفولة الآخذ في النماء، وقضت على مصادر الطعام والشراب، فأدت لإصابة عمر بمرض المجاعة الشديد، وكما كان في المدرسة فهو الآن زعيم المرضى ليقلده سائر أطفال الحي بالإصابة بهذا المرض البارد في قتله، فلقد سرى المرض في سائر الأحياء المجاورة وانتشر لينهش في الأطفال، وكأنهم يقتدوا بـ “عمر” في بروز أوصال جسدهم وشحوب وجوههم من جراء عدم التغذية!

حروب ودمار وقتل معنوي لطفولة خصبة الأفكار، دون من يهتم أو يهتز له جفن من مؤسسات إعلامية ضخمة الميزانيات تحركها التوجهات فقط دون الحقيقة، فيبقى مصير “عمر” كالكرة في ملعب كرة القدم تتقاذفها هذه القنوات لتحقق بها أهدافها وتكيل بها الاتهامات للطرف الآخر في الحرب، أو تتجاهلها عمداً عندما لا تأتي المباراة بأي مكاسب.

خاشقجي و حرب اليمن :

فبينما يصارع “عمر” خطر المجاعة الشديدة في اليمن السعيد – كما كان يكني أهالي اليمن بلادهم ما قبل عصور الحرب- ، اهتزت الميديا الإعلامية العربية والإعلامية بصورة مفاجئة لاختفاء صحفي سعودي اسمه “جمال خاشقجي”، وبجيوش جرارة من التقارير والمصورين والهاشتاجات احتلت الترند الإعلامي لفترة طويلة، وزادت سخونة التحليلات الحوارية الإعلامية حين كشفت التسريبات عن جريمتي خطف خاشقجي وقتله وتقطيع جثته بمنشار داخل أروقة دبلوماسية.

وهي جريمة تستلزم العدالة بكل تأكيد، وخاصة بعد تكشف كامل ملابساتها بلا أدنى شك، ولكن لماذا تلبس الإعلام دور القاضي النزيه في هذه الجريمة فقط، وغض الطرف عن مذابح ترتكب يومياً في بلد كامل اسمه اليمن وحرب دامية منذ عام 2016؟، وخاصة مع  توسلات منظمة “أنقذوا الأطفال” البريطانية للعالم، من الوضع المزري للأطفال في اليمن ، فالمجاعات تهدد نحو أكثر من 5 مليون طفل يمني ومعرضة للزيادة كل يوم، وكذلك استغاثات منظمة الصليب الأحمر لما يتعرض له شعب اليمن من مذابح تطال المدنيين طالما استمر ذلك العدوان!

كواليس صناعة ترند #خاشقجي :

يقال دائماً بأن الإعلام هو مرآة للواقع، فيعرض الواقع كما هو دون تدخل ، ولكن على ما يبدو من انتقائية في استعراض الأحداث وترتيب الأولويات في الصناعة الإعلامية حالياً، فإن للإعلام أغراضاً حاكمة تخلق الواقع وتدفع بحدث دون آخر؛ لتحتل به الصدارة والرواج العالمي. وهذه العملية مدفوعة بأسباب تـتعدد ما بين الضغوط الدولية بين الدول، والدفع بالأحداث في محاولة للوصول إلى تفاهمات في الكواليس بعيداً عن الأضواء الإعلامية.

وفي هذا الموضع نذكر مقارنة بسيطة على قدرة الإعلام في تحويل دفة الأحداث بل والتاريخ أيضاً، فقد نال الحاكم المصري القديم “توت عنخ آمون” شهرة واسعة عام 1922 تحكي كتب التاريخ أنه لم ينلْها في أثناء حكمه لمصر القديمة، كانت حياته كحاكم قصيرة جداً وغامضة، فقد جاء حكمه كفترة انتقالية بعد الحرب الضروس بين أخناتون قائد معركة توحيد الآلهة المصرية، وبين كهنة آمون الذين تضرروا من الإله الواحد! ولم يعرف على وجه الدقة إن كان توت عنخ آمون ابناً لأخناتون أم زوج ابنته، كل ما يعرف عنه أن هؤلاء الكهنة قد غيروا اسمه من توت عنخ آتون لتوت عنخ آمون.

وبالرغم من ذلك عندما اكتشفت مقبرته عام 1922 على يد عالم المصريات البريطاني هوارد كارتر، نال توت عنخ آمون ومقبرته شهرة عالمية، تولت جريدة التايمز البريطانية مسئولية صناعة هذا الحدث وترويجه، وكان السبب الرئيسي – بجانب عظم وأهمية أي اكتشاف أثري بالطبع- هو أن التايمز كمؤسسة إعلامية هي من نالت منفردة حقوق احتكار عرض محتويات هذه المقبرة، ونشرها على العالم أجمع بمن فيهم المصريين أصحاب الحق في هذه المقبرة!

وكذلك ما تخصصه القنوات الإعلامية العالمية من الترويج لأفكار السلام العالمي المرتبط مع نشأة الكيان الصهيوني، وضرورة الإيمان بالرؤية الجديدة القائمة على أن الدولة الفلسطينية قد أسقط حقها بالتقادم، وبالتالي لا بد من العيش في نعيم واحة السلام المتدفئة بالأفكار الصهيونية. تلك الأفكار التي تخصص سلاح الإعلام بجدارة لبث أن كل عمليات المقاومة هي إرهاب يهدم تطلعات الشعوب العالمية لنعيم السلام والدفء العالمي.

المطلوب من الترند الإعلامي:

إن حروب عصر التكنولوجيا لم تعد لتـقـتصر على ميادين المعارك العسكرية فقط، وإنما تتغلغل لتحرك الشعوب وتوجهها ثقافياً وفكرياً من خلال البث والترويج المستمر وبانتقائية لحدث بعينه دون الآخر، ونجعل الرواج هو دليلنا على صدق القضية فقط.

ولهذا لا بد لنا كمتابعين بعدم الانسياق فقط وراء الترندات الإعلامية معصوبي العينين وفاقدي البصيرة ، فنسلم بكل ما يعرض علينا دون إدراك ما يدور في كوابيس هذه النشرات الإعلامية، فكل قضية تستلزم منا وضعها في السياق الكلي الصحيح، والبحث عن أسبابها ومحاولة الخروج للحل، فقتل صحفي ليس مختلفاً في حكمه الأخلاقي الصحيح عن تـقتيل شعب بأكمله، فالضروري أن نتعاطف مع المقتول غدراً بالمنشار وترق قلوبنا أيضاً تحسراً على طفولة “عمر” اليمني.

 

اقرأ أيضاً:

“فلسطين حرة.. ستبقى قضيةً حية”

الفلسفة السياسية – الجزء الأول

البر بالمجتمع…كيف يكون الفرد باراً بمجتمعه ؟ وما أثر ذلك على المجتمع ؟

أحمد صالح

عضو فريق مشروعنا فرع القاهرة