مقالات

بوئيثيوس ومكانته الفكرية والثقافية

يعد بوئيثيوس واحدًا من أهم فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية، إذ كانت له مكانة ثقافية بالغة الأهمية، فقد ولد عام (475م) وتوفي عام (524م)، وكان من طبقة أرستقراطية رومانية، وكان يشغل منصبًا سياسيًا مهمًا، ونتيجة لبعض الوشايات ضده من الأسرة الحاكمة آنذاك أودِع في السجن وحكم عليه بالإعدام.

 فلسفة العصور الوسطى

كان بوئيثيوس يتقن اللغة اليونانية واللغة اللاتينية، وهو ما مكنه من قراءة التراث الفلسفي اليوناني مباشرة، وخاصة مؤلفات أفلاطون وأرسطو، إذ كان ينوي ترجمة مؤلفات كل منهما إلى اللغة اللاتينية وعمل شروحات وتفسيرات لهما، رغبة منه في ضرورة التوفيق بينهما، وهو ما سيعود بالنفع على المسيحية عقيدةً وفلسفةً على حد سواء، إلا أن مشروعه لم يتحقق نتيجة لسجنه ثم إعدامه.

تنوعت كتابات بوئيثيوس، فقد كتب في مجالات شتى؛ في الفلسفة، والمنطق، والدين، والعلوم، والخطابة، والهندسة، والموسيقى، إلخ. ويمكن الحديث عن المكانة الثقافية لبوئيثيوس في فلسفة العصور الوسطى الأوروبية في ضوء ما أنتجه من مؤلفات متنوعة ومتشعبة المجالات، ويمكن تقسيم مؤلفات بوئيثيوس إلى أربعة مجموعات: المؤلفات اللاهوتية، والمؤلفات المنطقية، والمؤلفات العلمية، والمؤلفات الفلسفية. وسنوضح مكانته الثقافية عن طريق إلقاء الضوء على كل حقل معرفي اهتم به بوئيثيوس.

مكانة بوئيثيوس الدينية

مكانة بوئيثيوس

في شأن مكانته الدينية، كان لبوئيثيوس كتاب بعنوان “في الثالوث”، حاول فيه شرح عديد من العقائد المسيحية وتحليلها بمناهج فلسفية، وكان لتلك المعالجات الأثر البالغ على فلاسفة أوروبا في العصور الوسطى، حتى إنهم اقتبسوا كثيرًا من الأفكار والتفسيرات والشروحات والمعالجات التي كان قد طرحها في مؤلفه السابق، فقد اهتم جيلبرت دي لابوريه والقديس أنسيلم وبيتر أبيلار وروجر بيكون وتوما الإكويني وويليام الأوكامي، بهذه المعالجات التي اقتبسوها مباشرة تارة وعلى نحو غير مباشر تارة أخرى في مؤلفاتهم الدينية والفلسفية على حد سواء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مكانة بوئيثيوس المنطقية

أما إزاء مكانة بوئيثيوس المنطقية، فقد ترجم عديدًا من كتب أرسطو المنطقية، وكانت له شروحات على كتاب “المقولات” و”العبارة” (في التأويل)، وكذلك ترجم مقدمة “إيساغوجي” لفروفوريوس، وقد انتشرت هذه التراجم والشروحات انتشارًا واسعًا حتى نهاية القرن الثاني عشر، من ثَمَّ كان بوئيثيوس بمثابة القنطرة التي انتقلت عبرها مؤلفات أرسطو المنطقية إلى عالم العصور الوسطى الأوروبية، وذلك قبل انتقالها من الحضارة الإسلامية، التي لعبت في شرحها وتفسيرها وهضمها وإعادة إنتاجها وتقديم فلسفة خاصة بها، ثم بفعل حركة النقل والترجمة نقلت تلك المؤلفات المترجمة وشروحاتها والإنتاج الإسلامي الفلسفي الخالص –خاصة أعمال كل من ابن سينا وابن رشد– إلى العالم الغربي الوسيط، بداية من القرن الثاني عشر حتى وصلت إلى ذروتها في القرن الثالث عشر، وبناء عليه فقد دخل أرسطو إلى العالم اللاتيني على مرحلتين، المرحلة الأولى كانت على يد بوئيثيوس، والمرحلة الثانية كانت على أيدي فلاسفة الإسلام.

كان لبوئيثيوس الفضل في انتقال مشكلة “الكليات” من العالم اليوناني إلى العالم اللاتيني، ونتيجة لهذا انشغلت الفلسفة الإسكولائية كثيرًا بهذه المشكلة، إذ وجد أنصار المذهب الواقعي وأنصار المذهب الاسمي في موقفهم من هذه المشكلة، وذلك في ضوء النزعة الدينية التي كانت مهيمنة آنذاك، كما كان المنطق في تلك الفترة وثيق الصلة بالدين، إذ كان يطبق المنطق على العقائد والمذاهب الدينية، ما أدى إلى التفسير العقلي للدين على يد كثيرين، أمثال جيلبيرت دي لابوريه وبيتر أبيلار.

مكانة بوئيثيوس الفلسفية

 

مكانة بوئيثيوس

أما عن مكانته الفلسفية، فكان لبوئيثيوس كتاب “عزاء الفلسفة”، والذي يعد واحدًا من أهم المؤلفات التي كتبت في تلك الحقبة، إذ كُتِبَ بلغة أدبية بليغة جمعت بين النثر تارة والشعر تارة أخرى، وجاء الكتاب على هيئة حوار بين “بوئيثيوس” و”سيدة” متمثلة في شخصية الفلسفة، وفيه يشكي بوئيثيوس للفلسفة أن ما علمته له من فنون الحكمة وممارستها وتطبيقاتها، كان سببًا رئيسًا في سجنه، فنتيجة لتطبيقه السياسة الحكيمة والعدالة والأخلاقيات والمنطق في الحكم والممارسات السياسية اقتيد إلى السجن وحُكم عليه بالإعدام.

يناقش بوئيثيوس في مؤلفه كثيرًا من القضايا الفلسفية، مثل إشكالية وجود الشر في العالم، والأخلاق، وحرية الإرادة، والحظ والقدر وغيرها كثير، وذلك في صورة حوارية ديالكتيكية، وفيه يتبع بوئيثيوس المنهج الحواري السقراطي، ويعالج القضايا الفلسفية بتناغم وتسلسل في تدرج منطقي يسير متوازيًا مع أجزاء الحوار، تلك القضايا التي اهتم بها عديد من اللاحقين عليه أمثال روسلان والقديس أنسيلم ودانتي إليجيري، إلخ.

مكانة بوئيثيوس العلمية

أما بصدد مكانته العلمية، فكان لبوئيثيوس مؤلفات علمية في كل من: الهندسة، والحساب، والموسيقى، إلخ، ورغم أنه لم يناقش في مؤلفاته العلمية اكتشافات أو اختراعات خاصة به، فقد كانت أشبه بالكتب المدرسية التي تجمع الأسس والأصول الأولى التي تقوم عليها تلك العلوم، وكانت مادة ثرية في التثقيف العلمي في عصره وفي الفترات اللاحقة عليه، وينسب إليه وضع مؤلفات مدرسية تعليمية، التي وضعها في مجموعتين، وهما المجموعة الرباعية والمجموعة الثلاثية، لتكون بمثابة النواة الأولى للمناهج التعليمية المدرسية، التي استعين بها في المناهج التعليمية عندما أسست الجامعات في العالم الأوروبي الوسيط.

مقالات ذات صلة:

بوئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!

سبب الخرافة والجهل في عصر النهضة

لمحة من حياة شوبنهاور

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. غلاب عليو حمادة الأبنودي

مدرس اللاهوت والفلسفة في العصور الوسطى ، قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة سوهاج