إصداراتمقالات

مقامة المترو

كنت في صباح صيفي حار، واقفا على رصيف المترو في الانتظار، إذ أقبلت عربة المترو من بعيد مقتحمة اللقطة، وتباطأت للوقوف في المحطة، واستعد الجميع للصعود، واصطفوا سادّين المداخل والمخارج في برود. حتى إذا توقفت أمامنا العربة، وانفتحت أمامنا أبوابها مرحبة، دخل كل منا يلتمس لنفسه مقعدا، حتى لا يكون بعد وصوله -من الوقوف- مُجهَدا.

وبينما كانت أماكن الجلوس وفيرة، كانت هناك مشكلة صغيرة. فعلى إحدى الدكك كان يوجد –ياللهول- صرصار، مقلوب على ظهره، يحاول باستماتة واستمرار، تعديل وضعه. فتعامَل أوّلُ من رآه بمبدأ السلامة، ولم يجلس بجانبه أو أمامه. لكن هيهات أن يبقى لمن بعدهم الاختيار، وقد قلت أماكن الجلوس في عربة القطار. جلس في تلك المحطة رجل بجانب الصرصار، وفي التالية أتى آخر ليتمّ الحصار. بهذا صارت الحشرة تحتل مساحة تكفي لجلوس إنسان، وفرضت سيطرتها على هذا المكان. وبدلا من ترك الأمر للظروف والجلوس في المكان الشاغر، اختار بعض الناس الوقوف، هربا من القلق القاهر.

تفكرت في مخرج من تلك المعضلة، ينهي حالة الترقّب بأقل قدر من البهدلة. لا بدّ إذن من رجل شجاع حازم، أو طالب مستغنٍ عن بعض الملازم. لكن المهلة لم تكن كافية للتخطيط، والتحرك الواعي الحويط. فقد أتت المحطة التالية بالمزيد من الركاب، من بينهم كان هذا الشاب. تقدم إلى المكان الفارغ في سعادة ليقتنص الفرصة، وكأنما هو من رواد البورصة، شاكرا الله على أن رزقه سرعة البديهة وأعمى عيون باقي الناس عن تلك المنطقة المريحة. لكنه ما إن رأى الصرصار حتى تغيرّت قسمات وجهه وازرقّ، وتردد في تسلّم مكانه المستحق. ثم إنه خلال بضعه ثوانٍ حسم أمره، وقرر أن يجلس في المكان ويعطي الصرصار ظهره. لكن انتهاك حرم الصرصار لم يرح جاريه فارضي الحصار. هب أن الصرصار عاد يمشي على أقدامه، شاقا طريقه على جسد امرئ مهتم بهندامه، إن هذا لأمر يدعو للجزع، وتصوّر يصيب الإنسان بالفزع. ولأن حل المشاكل لا يأتي بإدارة الظهر لها، كان لا بد من تدخّل رجونا ألا يكون أبلها. قام أحد الجارين وأخرج من جيبه بطاقته الشخصية، وأقام الشاب من مكانه لتتوفر له وللهدف بعض الخصوصية. واستخدم البطاقة في القيام بحركة سريعة، تقذف الصرصار بعيدا عن منطقته المنيعة. طار المقذوف باتجاه الدكة المقابلة، مما أثار في العقول التساؤلا، ألم تكن كل الجهات أوْلى من هذه الجهة؟ ولماذا لم يصرخ في الرجل أحدٌ منبّها؟

مر الصرصار في رحلة سقوطه بين ساقي رجل طويل النجاد، عريض التاتش باد، جالسٍ منهمكٍ في التعامل مع جهازه، وهو ما قام صاحب البطاقة بانتهازه. ورفع باقي الركاب أرجلهم إلى السماء، لاعنين في سرهم خصلة الغباء. ولاذ الصرصار بالفرار، وانصرفت عنه المخيلات والأفكار، وعم البلاد الاستقرار.

وبهذا فقد انتهت تلك القصة، لكننا سنسرد العبر مستفيدين بالفرصة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك
  1. لا تؤجل عمل الآن إلى الوغد.
  2. المترو يسبب عطبا مؤقتا في الدماغ، مصحوبا أحيانا بهلوسات بصرية.
  3. التكنولوجيا قد تساعدك على تفادي لحظات مرعبة وصدمات نفسية حادة.. صاحب التاتش باد مثالا.
  4. في إطار مغلق فإن مشكلة الواحد تتحول بسهولة إلى مشكلة للجميع. وما العالم إلا عربة مترو كبيرة.
  5. ليس كل الأبطال المنقذين أذكياء وجذّابين.
  6. مواجهة المشكلة خير من القلق بشأنها.

ياسر حسام عطا

مهندس كهرباء

مترجم حر

كاتب ومصحح لغوي

باحث في مشروعنا بالعقل نبدأ بالقاهرة