إن المتأمل في الدلالات اللغوية لكلمة “العنف” في اللغة يجد أنها تدور حول عدد من المعاني، نستطيع باستقصائها والتوقف معها أن نقترب من مفهوم العنف ومضامينه.
تعريف ومعنى العنف
فكلمة “العنف” وما يشتق منها من أفعال، مثل: عَنّفَ وأَعْنَفَ واعْتَنَفَ في اللغة تشير إلى معان هي: عدم الرفق، الشدة، الجهل، الكره، التوبيخ، إذا ما تأملنا هذه المعاني نجد أنها تُقرّب لنا مفهوم العنف، وذلك بكشفها لنا عن جهات عدة تُحيط بـالعنف، مثل هيئة وقوع العنف وبواعثه وما ينتج عنه.
أما “هيئته” فتتضح في معنيي: “الشدة” و”عدم الرفق”، وأما “بواعثه” فيعبّر عنها معنيا: “الجهل” و”الكره”، أما “نتيجته” فهي “الإيذاء”، والصفة الجامعة لكل هذه الخصال السيئة سواء أكانت في هيئته أم في بواعثه أم في نتائجه، هي: “الظلم”، فالعنف إيذاء ناشئ عن ظلم وجهل.
من هو الشخص العنيف؟
إن تأمل هذه الجهات المتعددة التي تصوّرها معاني كلمة العنف ينتهي بنا إلى أن بعضها مُفْضٍ إلى بعض، وكأنها شبكة مفهومية متكاملة تُصوّر جوانب مختلفة في الشخص العنيف، فـ”الشدة” و”عدم الرفق” صفات سلوكية تنتج عن جهل منهجي وفقر معرفي في العقول، كما أنها تنمُّ عن حب للذات عند الشخص العنيف من جهة، وكره دفين في قلبه للآخرين من جهة أخرى، وتؤدي كل هذه الأمور إلى “إيذاء” المشاعر والأبدان للمُعنَّف، فمُمارس العنف قد أتى عددًا كبيرًا من الأفعال المشينة التي بها صار يستحق وصفي: “ظلوم” و”جهول” وليس “ظالمًا” و”جاهلًا” فقط.
أن تكون عنيفًا يعني أنك تعاني فقرًا في علمك، ومن ثَمَّ عجزت عن أن تعالج الأمر بـسعة العلم فوقعت في ضيق العنف، أن تكون عنيفًا إنما يعني أنك تعاني مرضًا في قلبك وهو الكره للمُعنَّف، إذ إنك لو كنت سليم القلب والنية لسلكت مسلك اللطف لا العنف، أن تكون عنيفًا إنما يعني أنك تعاني ضعفًا في شخصيتك، إذ إنك لو كنت قويًا لما لجأت إلى العنف، أن تكون عنيفًا إنما يعني أنك لا تريد البناء بقدر ما تريد الهدم، لا تريد الجمع بقدر ما تريد التفريق، لا تريد الإصلاح بقدر ما تريد الإيذاء، أن تكون عنيفًا إنما يعني أنك انتصرت لـنفسك لا لـرُوحك.
في كلمة واحدة: أن تكون “عنيفًا” هو أن تكون “صغيرًا”.
تعرف على: أسباب العنف ضد المرأة في المجتمع العربي
مفهوم العنف ضمن المنظورين: الأخلاقي والمادي
إنّ تأسيس معنى العنف على ثلاثية ” الإيذاء والظلم والجهل”، يمنح تصوّرنا للعنف غنًى في فهمه على أكثر من مستوى، كما يُكسبه تميزًا في مفهومه عما يتقاطع معه من مفاهيم مثل مفهوم “القوة” و”الجهاد”، وهي ليست منه في شيء، أقصد هذه المفاهيم.
أما الغنى الذي نحصّله من اعتبار العنف إيذاءً ناشئًا عن ظلم وجهل فهو يتجلى على أكثر من مستوى، وسأجعل حديثي هذه المرة مقتصرًا على مستوى مفهومه.
إن ربط العنف على مستوى نتائجه بـالإيذاء، وعلى مستوى بواعثه بـالجهل والظلم يُعطي مفهومه عمقًا، إذ إن العنف وفق هذه الرؤية المطروحة يقوم على منظور أخلاقي بالأساس، وضمن هذا المنظور الأخلاقي يستوي الظاهر والباطن من الأفعال طالما أنها أدّت إلى الإيذاء الناشئ عن جهل وظلم، ولا يقوم على منظور مادي يحصر العنف في مظهره المادي الذي يتجسد في أفعال مادية ظاهرة فقط، تكاد تنحصر في الأعمال الإرهابية عند أصحاب هذا المنظور المادي.
في إقامة “مفهوم العنف” على هذا المنظور الأخلاقي أكثر من فائدة، سواء أكانت على صعيد تشخيص العنف والإمساك بتشعباته، أم على صعيد مواجهته وعلاجه محليًا وعالميًا.
تشخيص العنف من المنظور الأخلاقي
أما على صعيد تشخيصه والإمساك بتشعباته فإن “مفهوم العنف” وفقًا لهذا المنظور الأخلاقي لا يُفرّق بين العنف الظاهر والعنف الخفي، أو العنف المادي والعنف المعنوي، أو عنف الأفعال وعنف الأقوال، فكلها ممارسات يصدق عليها وصف العنف لما تسبّبه من إيذاء ينتج عن جهل وظلم.
الأمر الذي يجعلنا نستشعر الخطر من قابلية العنف أو ثقافة العنف الخفية في النفوس، كما نخشى أفعال العنف الظاهرة في الأفعال والسلوك، بل إن قابلية العنف هذه أشد وأنكى من أفعال العنف، إذ إن الأخيرة يُرجى زوالها سريعًا، أما الأولى فهي تحتاج إلى خطة علاج طويلة تتعدد مستوياتها بين ما هو نظري وما هو عملي، حتى يبرأ العنيف من قابلية العنف تلك، إذ إنها متحكمة من بواطن العنيف، وسأُفصّل ذلك لاحقًا.
هكذا فالعنف في تشعباته ترسانة ضخمة من التصورات والأعمال، أو جبل من الجليد لا نرى إلا قمته تلك التي تتجلى في أفعال العنف، وإذا ما رمنا له علاجًا ناجعًا فلا بد أن نستكشف جذوره في النفوس والعقول ونعالجها، قبل السعي إلى استئصاله من الأفعال والوقائع.
اقرأ أيضاً: ترويض العقول وتبرير العنف بين المتبوع والتابع!
مواجهة وعلاج العنف من المنظور الأخلاقي
أما على صعيد المواجهة والعلاج فإن هذا المنظور يساعدنا عالميًا بـ”أرضيته الأخلاقية” التي تتمتع بقبول إنساني وكوني، أن نُدرج داخل العنف ممارسات عالمية لا تحظى بوصف العنف، نظرًا لأنها خارج مجاله ضمن التصنيف المادي للعنف، ذلك الذي يحصر العنف في الأفعال الإرهابية فقط، في حين أن هذه الممارسات العالمية وفقا لهذا المنظور الأخلاقي قد جاءت في غاية العنف، كما هو في الصور المسيئة للنبي “محمد” صلى الله عليه وسلم، لما في تلك الصور من إيذاء ناشئ عن الجهل والظلم.
من ناحية داخلية محلية يساعدنا هذا المنظور بـأرضيته الأخلاقية على كشف نوع من العنف يمارس تحت أغطية متعددة تحظى –في ظاهرها– بمشروعية دينية أو عقلية، بيد أنها مشروعية معلولة بسمتي الجهل والظلم، ومن ثم فهي لا تخرج عن وصف العنف، لما تسببه من إيذاء خفي، وإن بدت هذه الممارسات في ثوب العقلانية أو التدين عند أصحابها.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا