من البطل؟!
هلا سألنا أنفسنا يومًا: ماذا عساها أن تكون محددات البطل في تصور العقل الجمعي؟! وللإجابة عن هذا التساؤل الواجب يجدر بنا أن نوسع مداركنا ما وسعنا ذلك، وأن نرخي العنان لخيالنا ما وسعنا ذلك ونحن نبحث عن هاته المحددات، إذ البطولة ليست أمرًا هينًا أو أمرًا خاصًا نستطيع أن نحيط به خبرًا، وإنما هي أمر عام يخص المجموع ويتعلق بالكل، وعليه يجب أن نعلم أن الإنسان إذا تفوق في مجال ما تاركًا الآخرين دون أن يكون لهم نصيب منه فهو بذلك لا يرقى أن يسمى بطلًا، لا وألف لا، إن البطولة الحقيقية أن تكون نافعًا الآخرين قبل أن تكون نافعًا نفسك، وهذا هو الميثاق الذي تصالحت الآراء عليه عبر الحقب الزمنية المتتابعة واصطلحت على التوافق عليه عقول المفكرين في كل عصر ومصر واستقر في الوجدان الجمعي لدى الشعوب.
البطولة في الرواية والحياة
أُقدّم منفعة الآخرين على منفعة النفس لأنها الأهم في معنى البطولة، فليس من البطولة أن تأكل وحدك ويجوع الناس، ولا أن تشرب وحدك ويظمأ الناس، ولا أن تسعد وحدك ويشقى الناس، ولا أن تأمن وحدك ويخاف الناس، وإنما البطولة أن تشارك الناس آمالهم وأفراحهم وأتراحهم متحملًا عنهم أعباء شقاوتهم وأحزانهم، باذلًا لهم أسباب سعادتهم، وبهذا تكون ذا أثر في حيواتهم لا يخلو من معنى البطولة.
وقد تظاهر نفر كثير من الأدباء المبدعين على تكريس معنى البطولة في الدفاع عن الأوطان وبذل النفس تضحية لذلك، ومن هؤلاء الأديب “توفيق الحكيم” في مسرحيته: “ميلاد بطل”، والأديب الكبير “نجيب محفوظ” في ثلاثيته: “بين القصرين، السكرية، قصر الشوق”، والأديب الكبير “إحسان عبد القدوس” في كثير من أعماله وبخاصة روايته: “في بيتنا رجل”، و”جمال الغيطاني” في روايته: “الرفاعي”، وغيرهم كثير لافتين بذلك النظر إلى حقيقة مهمة أن البطولة الحقيقية هي التي تولد تحت خط النار لا التي يحوز صاحبها نصرًا شخصيًا، وهذا أمر طيب وإن كان معنى البطولة أعم من ذلك بكثير.
مفهوم البطولة على مر العصور
إن مفهوم البطولة من المفاهيم الثابتة عبر الأزمنة المتعاقبة والأمكنة المتباينة، فكلمة بطل معناها في العصر القديم هو هو معناها في العصر الحديث لا فرق بينهما إلا في أدوات البطولة ووسائلها، لكن فعل البطل الذي يكمن في معونة الآخرين وحمايتهم يظل كما هو منذ القديم، وهاك قارئي العزيز استعراضًا لمعنى البطولة عبر العصور العربية، ففي العصر الجاهلي الذي انتشرت فيه الإغارة على الآخرين وانتشرت فيه مظاهر السلب والنهب تمثلت فيه البطولة في شخصية “عنترة” العبسي، الذي كان رمزًا لحماية القبيلة من الأعداء وملاذًا آمنًا للضعفاء من البشر، وفي العصور الإسلامية المتعاقبة ظهرت لنا معنى البطولة في الشخصية التي تجاهد لإعلاء كلمة السماء وإنقاذ البشرية من التردي الحاصل نتيجة بعدهم عن منهج السماء، الذي جاء إليهم عن طريق الوحي الإلهي الذي نطقت به الرسل، وفي عصور الاحتلال بعد ذلك تجلت البطولة في أسمى معانيها في تزعم الحركات الوطنية ومواجهة الاحتلال سرًا وجهرًا، فيذكر لنا التاريخ بطولات عديدة لرجال عكسوا معنى البطولة، ومنهم الزعيم “محمد كريم” الذي واجه “نابليون بونابرت” دون خوف أو وجل رافضًا أن يفتدي نفسه على حساب أمته، والزعيم “عمر مكرم” الذي ترأس الحركة الوطنية في مصر، وقاد ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الفرنسيين، والزعيم “أحمد عرابي” الذي واجه القوات الإنجليزية واقفًا أمام تقدمهم نحو القاهرة، والزعيم “مصطفى كامل” المحامي الجهير الذي جعل قضية بلاده قضيته الأولى داخل مصر وخارجها، فكتب المقالات اللاذعة التي تندد بالسياسة الإنجليزية في مصر، وسافر إلى “فرنسا” لينادي بالحرية لبلاده، وكتب مقالات على إثر حادثة “دنشواي” عرّف العالم أجمع كيف تدار الأمور في مصر، وكان من أثر مقالاته هذه أن عُزِل اللورد “كرومر” من منصبه بعد أربعة وعشرين عامًا عاث فيها فسادًا، وجاء من بعده الزعيم “محمد فريد” الذي أكمل مسيرة “مصطفى كامل” في المناداة بحرية مصر، والزعيم “سعد زغلول” الذي قاد الأمة ضد الاحتلال الإنجليزي، وسار على دربه من بعده “مصطفى النحاس” ومن تبعه من أعضاء حزب “الوفد” المصري، إلى أن جاءت ثورة الثالث والعشرين من يوليو لتعلن نهاية الوجود الإنجليزي في مصر.
البطل الحقيقي
مع احتلال إسرائيل للأراضي المصرية والعربية تجلت معنى البطولة في الدفاع عن الوطن ضد هؤلاء المحتلين الغاصبين لأرضنا، ففي حرب الاستنزاف تمثلت البطولة في هؤلاء النفر الذين كانوا يعبرون قناة السويس وينفذون أعمالًا شبه مستحيلة خلف خطوط العدو الصهيوني، من تدمير منشآت وأسر الجنود أو تحرير الرهائن والرجوع بهم إلى غرب قناة السويس، ثم كان ما كان من بطولات حرب العاشر من رمضان المجيدة التي أوضحت ضعف الكيان الإسرائيلي وفضحت غرورهم الذي طالما ادعوه أمام العالم أجمع، وبفضل تلك البطولات استطعنا تحرير سيناء وإرجاعها إلى حضن مصر مرة أخرى.
ومع ما نشاهده اليوم من أحداث دامية تتجلى معنى البطولة في هؤلاء الصامدين في غزة وما حولها من الأراضي الفلسطينية المباركة، فهؤلاء بما يقدمونه من أرواحهم وأهليهم فداء للأرض والعرض هم الأبطال الحقيقيون في زمن عزت فيه البطولة.
اقرأ أيضاً:
مفهوم القوة وصورة البطل الحقيقي
بالعزيمة والإصرار تفعل المستحيل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا